فهمي هويدي
حين احتفى البعض فى مصر بالحكم بالسجن ١٥ عاما على الضابط، الذى اتهم بقتل المحامية شيماء الصباغ. فإن شابة فى مقتبل العمر علقت على تغريداتهم قائلة «تذكروا أن ذلك حكم محكمة أول درجة، لكن البراءة تنتظره فى نهاية المطاف». ما لفت نظرى لم يكن الحجة التى وردت فى التعقيب وإنما صدورها عن فتاة يقل عمرها عن عشرين عاما. ذلك أن الأمر أصبح واضحا والفكرة شائعة بأن ضباط الشرطة لا يحاسبون ولا يسألون عما يفعلون بالنشطاء السياسيين بوجه أخص. يؤيد ذلك ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعى بخصوص الشاب الكفيف الذى اشتبك مع ضابط شرطة حين استوقفه وهو يعبر أحد الشوارع وقال له إن بوسعه أن ينهى حياته برصاصة واحدة يطلقها. وقد ذكر الشاب أنه احتمل إهانات الضابط لأنه مقتنع أن بوسعه قتله وأن قتله لا ديَّة له.
هذا الاقتناع لم يكن مجرد تخمين أو تصور لسيناريو افتراضى، لأن شواهد الواقع تؤيده حينا بعد حين. ولم يعد مستغربا أن تدرك الأجيال الجديدة أن الحكم بسجن ضابط الشرطة إذا كان لابد منه فهو مؤقت ويراد به امتصاص الغضب واسترضاء الرأى العام. لكن براءته حتمية فى النهاية. وبعد تبرئة الضابط الذى حكم عليه بالسجن ١٥ عاما بعد إدانته فى تعذيب وقتل الشاب سيد بلال الذى اتهم فى قضية كنيسة القديسين (عام ٢٠١١) وكذلك تبرئة زميله الذى أدين فى قتل ٣٨ شخصا الذين كانوا فى عربة ترحيلات سجن أبوزعبل. وكذلك تبرئة جميع الضباط الذين اتهموا فى أكثر من ٤٠ قضية قتل أثناء ثورة يناير، بعد كل ذلك ليس مستغربا ألا تؤخذ الإدانة على محمل الجد من جانب أى شخص له عقل وذاكرة. وليس بعيدا عن أذهاننا الحكم النهائى الذى صدر أخيرا ببراءة وزير داخلية مبارك وأعوانه الستة، الذين قادوا جهاز الشرطة أثناء ثورة يناير، حين قتل نحو ألف شخص ذهبت دماؤهم هدرا. ولا أملّ من التذكير فى هذا الصدد بما أورده تقرير لجنة تقصى حقائق أحداث الثورة التى رأسها المستشار عادل قورة، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، الذى تحدث صراحة عن ضلوع الشرطة وقياداتها فى عملية القتل (التقرير تم إخفاؤه ولكن له خلاصة وافية من ٤٢ صفحة أعدتها اللجنة ووزعتها على الصحف آنذاك وهى موجودة على الإنترنت). وأضيف إلى ما سبق ما أثبتته نيابة الثورة بخصوص وجود ٤٣٣ قناصا بوزارة الداخلية أطلقوا النار على المتظاهرين، فى حين نفى المسئولون بالوزارة وجود قناصة من الأساس. (جريدة الوطن نشرت تقريرا مفصلا عن الموضوع ـ موجود على الإنترنت أيضا ـ نشر فى ٣/٥/٢٠١٣).
الحقيقة الجوهرية التى يتجاهلها كثيرون أن تعذيب النشطاء أو إطلاق الرصاص عليهم لا يتم بمبادرة من الضباط، ولكنه يتم بتوجيه وتصريح من قيادات الداخلية، التى قد لا تدعو إلى القتل ولكنها تتسامح له إذا وقع وتقبل به باعتباره احتمالا واردا، لذلك فمن الطبيعى أن تتضافر الجهود لتغطية وتأمين الضباط الذين ينفذون التعليمات.
وإذا علمنا أن الجهاز الأمنى له أساليبه فى السيطرة وضبط مسار جميع مراحل التعامل مع القضية منذ فتح التحقيق حتى الحكم النهائى، وهو ما أثبتته التجربة، فلا غرابة فى أن يظل شعار «البراءة للجميع» مرفوعا طول الوقت، بحيث لا يدان ضابط فى كل الأحداث التى تعاقبت خلال السنوات الأربع الأخيرة. حيث لا يعقل أن يكلف الضباط بمهام أيا كانت طبيعتها ثم يسمح بمعاقبتهم إذا قاموا بتنفيذها على الوجه المطلوب، أو حتى أخطأوا وذهبوا بعيدا فى التنفيذ.
من هذه الزاوية فإن الحكم بسجن الضابط الذى أدين فى قتل المحامية شيماء الصباغ لا ينبغى أن يستقبل بحسبانه عقابا له وانتصافا لها أو أخذا بحقها. لكنه بمثابة لقطة فى الفيلم الذى ينتهى بتبرئته وعودته معززا مكرما إلى أسرته ووظيفته وقبيلته التى تحميه. وكلها أسابيع أو أشهر معدودة، يهدأ فيها الغضب وتشحب الذاكرة وينسى الناس شيماء الصباغ كما نسوا سيد بلال وقبله خالد سعيد وغيرهما وغيرهما. لكى تحل النهاية السعيدة ويسدل الستار على القصة.
لكى تصبح الصورة أكثر وضوحا، أعيد التذكير بأن القضية ليست أن ضابطا أطلق رصاصة طائشة أو عذب متهما فقتله عن غير عمد أو حتى مع سبق الإصرار والترصد. لكنها فى السياسة التى أرادت له أن يؤدى هذا الدور. وحتى إذا اعتبر الضابط فاعلا ومنفذا، إلا أن وراءه من دبَّر وكلفه بأداء ذلك الدور. من ثم فلا أمل فى عدل أو إنصاف ما لم تتغير السياسات ويصبح القانون سيفا مسلطا على رقاب الجميع. وهو ما يعنى أننا بصدد مشكلة كبيرة تتجاوز الضابط ورؤساءه، وتقف على تماس مباشر مع السياسة وخطوطها والموقع الحقيقى للدستور وقدرة المجتمع على الدفاع عنهما ذودا عن حق المواطنين فى الحياة، فضلا عن حقهم فى الكرامة.
الشواهد التى بين أيدينا تدل على أن هذا الذى أدعو إليه يبدو أملا بعيد المنال، لذلك فلست آمل فى تغير بشىء مما ينبغى أن يتغير فى الأجل المنظور، لأن غاية مرادى فى الوقت الراهن أن نفهم القضية على نحو صحيح، بحيث ندرك أن الفيلم ليس جديدا، ولكنه مجرد استنساخ لأفلام أخرى مماثلة شاهدناها خلال السنوات الأخيرة تغير فيها الأبطال حقا، لكن القصة ظلت واحدة.
إن الفيلم هو ما ينبغى أن يتغير، وليس أشخاصه أو إخراجه.