بقلم فهمي هويدي
أحذر من فتنة جديدة توقع بين الشعبين المصرى والسعودى بسبب قضية الجزيرتين تيران وصنافير. صحيح أن حدود الفتنة وتجلياتها محصورة حتى الآن فى نطاق مواقع التواصل الاجتماعى وبعض البرامج التليفزيونية، إلا أن الدعوة إلى «ضبط النفس» واجبة فى كل الأحوال، فى حين أن الدعوة إلى وأد الفتنة وسد منافذها تظل أوجب. وربما أفادنا فى هذا الصدد أن نلجأ إلى تحرير المشهد الذى أزعم أنه حافل بالمفارقات وربما التناقضات. ذلك أننا بصدد قضية اتفقت فيها حكومتا البلدين لكن التنازع والتجازب إزاءها انتقل إلى بعض شرائح المجتمع فى البلدين. ثم إن الغضب فيها لم يكن فى أصله موجها ضد الحكومة أو الشعب فى المملكة، ولكنه كان غضبا مصريا موجها نحو السلطة المصرية. وفى حين علت أغلبية الأصوات فى مصر متبنية موقف تبعية الجزيرتين للسيادة المصرية، فإن الحكومة المصرية هى التى بذلت الجهد لإثبات ملكية السعودية لهما. ورفع من وتيرة الغضب ان الطرف المصرى الذى يفترض تقليديا ووظيفيا أنه يتولى تأمين الحدود والحفاظ عليها. هو الذى تخلى عن الجزيرتين وقرر إلحاقهما بالسيادة السعودية. ثم ضاعف من الغضب أن الرأى العام المصرى اكتشف أن الحكومة الإسرائيلية علمت بالموضوع وحددت موقفا إزاءه، قبل أن يعلم به المجتمع المصرى ومؤسساته التمثيلية.
الشاهد أنه لم تكن هناك مشكلة ولا حساسية من أى نوع لا ضد الحكومة السعودية أو ضد الشعب السعودى، وان تفاعلاتها وأصداءها كانت مصرية خالصة. لذلك لم يكن هناك ما يبرر انتقاد الحكومة السعودية التى تحرت مصالحها، ولا انتقاد الشعب السعودى الذى لم يكن طرفا فى الموضوع. من ثم أزعم أن توجيه سهام النقد أو الغمز فى أى منهما يعد من قبيل الشطط غبر المبرر، فضلا عن أنه أخذ منحى لا يليق فى أحيان كثيرة. لا أتحدث هنا عن الاتفاق أو الاختلاف فى المواقف، لكننى أتحدث عن أدب الحوار والاحترام الذى ينبغى أن يتبادله أطرافه خلاله.
لدينا مشكلتان فى هذا الصدد، الأولى أنه فى ظل تطور تقنيات التواصل صارت منابر الرأى مفتوحة على مصارعها، بحيث أصبحت تتسع لمختلف درجات النزق والتجريح، جنبا إلى جنب مع الآراء الصائبة والرصينة. وهو مما يصعب ضبطه أو السيطرة عليه، الأمر الذى يفتح الباب لافتعال أزمات واحترار مرارات لغير سبب أو لأسباب تافهة. المشكلة الثانية ان المجتمعات العربية ضاقت فيها الصدور بحيث لم تعد تحتمل حوارا من أى نوع. وفى أحيان كثيرة يتطور الحوار ليصبح اشتباكا ومعركة حياة أو موت. إذ لم يعد طرفاها يتبادلان وجهات النظر ولكن صار كل منهما معنى إما بإقصاء الآخر أو إبادته. حتى إننا إذا ما انتقدنا الشطط فى الحوار ودعونا إلى ترشيده، فإننا صرنا نصاب بالحرج ولا نكاد نجد ردا على من يسأل: هل هناك أصلا حوار رشيد أو غير رشيد فى العالم العربى؟
لدينا مشكلة ثالثة عويصة سببها أزمة الديمقراطية فى العالم العربى، خلاصتها أن بلادنا يحكمها أفراد لا مؤسسات. بالتالى فإن القرار المصيرى سياسيا كان أم غير سياسى ينسب إلى رأس الدولة وليس إلى مؤسساتها. ولعلى لست بحاجة للتنويه إلى أن المؤسسات موجودة ووفيرة فى العالم العربى لكنها مفصلة بحيث تصنف ضمن الديكور السياسى ولا علاقة لها بالمشاركة السياسية. يشهد بذلك أن تاريخنا المعاصر بات ينسب إلى الحكام، من مصر الناصرية إلى مصر مبارك والسيسى، فضلا عن أن بعض الدول العربية تنسب إلى العائلات الحاكمة فيها.
شخصنة السلطة أبقتنا فى إطار زمن القبيلة الذى فى ظله يذوب المجتمع فى شيخها الذى يحكمها. بالتالى فإننا من الناحية العملية والسياسية لم ندخل بعد عصر الدولة الحديثة التى تقوم على تعدد المؤسسات والفصل بين السلطات. بالمناسبة أضيف هنا بين قوسين ان النصوص القرآنية التى تجاوزت ستة آلاف آية تستخدم فى وصف إدارة المجتمع مصطلح «أولو الأمر» بصيغته الجماعية ولم تشر إلى مصطلح ولى الأمر فى أى مرة.
بسبب هيمنة ثقافة القبلية فإن انتقاد ممارسات أى نظام حاكم أصبح يستنفر القبيلة التى تعد ذلك مساسا بكرامتها ونيلا من كبريائها و«ثوابتها»، فى حين أنها ليست الطرف الأساسى الذى يوجه إليها النقد. وهو ما حدث فى الموضوع الذى نحن بصدده حين أصاب التلاسن ممارسات الحكومة السعودية، فأدى ذلك إلى استنفار بعض الشباب السعودى الذين تبادلوا الغضب فى الفضاء الإلكترونى مع نظرائهم من المصريين. وسمعت أن رذاذ ذلك التلاسن أصاب بعض المصريين العاملين فى المملكة.
ثمة اعتبار أخير لا استطيع أن أتجاهله يتعلق بطبيعة المرحلة التى نمر بها. إذ سبق أن نوهت إلى أن مراحل الضعف بأجوائها غير الصحية والملوثة تستخرج من الناس أسوأ ما فيهم. أما مراحل العافية والثقة فهى تستخرج من الناس عادة أفضل ما فيهم. ولأن عالمنا العربى يعيش فى أجواء المرحلة الأولى فإنه صار مهيأ أكبر للاشتباك والتلاسن والاستسلام للفتنة، الأمر الذى يستلزم التنبيه والتحذير من الانجرار فى ذلك المسار. الذى يفسد ما بين المصريين والسعوديين من مودة واحترام. وهى رسالة موجهة إلى الإعلاميين والمدونين بالدرجة الأولى.