فهمي هويدي
الخبر أن جيران البناية الأثرية لاحظوا أن مجهولين جاءوا ذات يوم وشرعوا فى هدم أجزاء منها ثم قاموا بتغطيتها، وعند منتصف الليل أحضروا معدات ثقيلة استخدموها فى هدم ثلاثة أعمدة خرسانية فى مدخلها، إلا أن الجيران الذين تشككوا فى الأمر سارعوا إلى إبلاغ شرطة حى شرق الإسكندرية، التى قدم رجالها وأوقفوا الهدم.
القصة نشرتها جريدة «الأهرام» فى الأول من شهر نوفمبر الحالى. وتابعت بها ما سبق أن أشارت إليه تحت عنوان «جريمة أثرية بالإسكندرية» وكشف فيه عن أن الفيللا، التى صممها ٤ من المهندسين الفرنسيين، وبناها فى عام ١٩٣٠ الثرى اليهودى شيكوريل، تعد للهدم رغم أنها من المبانى الأثرية بالمدينة. وكانت قوانين التأميم التى صدرت فى ستينيات القرن الماضى قد وضعتها ضمن ممتلكات الدولة فى السبعينيات. واستخدمتها إحدى شركات الملاحة البحرية، إلا أنها قامت ببيعها لمشترٍ جديد حاول هدمها لإقامة برج سكنى مكانها، رغم أنه لم يحصل على رخصة الهدم. ويلفت النظر فى القصة أنها كانت مدرجة ضمن قائمة التراث المعمارى، إلا أنها أخرجت من القائمة فى ظروف غامضة، الأمر الذى فتح الباب لهدمها.
هذه واحدة من مئات القصص الأخرى التى يتداولها النشطاء الذين استنفروا للدفاع عن التراث المعمارى المهدد بالإبادة فى أنحاء مصر. وهم الذين ما برحوا يطلقون نداءات تدعو لإنقاذ ذلك التراث الذى أصبح ضحية الجشع والجهل والفساد.
وكما صرنا نسمع عن حملة «أنقذوا الإسكندرية»، فإن الغيورين من النشطاء نظموا حملات مماثلة لإنقاذ المبانى الأثرية والتاريخية فى القاهرة والمنصورة ودمياط وبورسعيد وأسيوط.. إلخ. ولئن كانت القاهرة المملوكية والخديوية صاحبة الحظ الأوفر من تلك المبانى التاريخية باعتبار أنها ظلت عاصمة الدولة على مر العصور، فإن أعيان المصريين، الذين انتشروا فى مختلف المحافظات وكانت لهم ملكياتهم أقاموا أبنية ومقرات صارت تحفا معمارية توزعت على تلك المحافظات، واحتلت الإسكندرية وبعض مدن الدلتا موقع الصدارة بينها. وبسبب ذلك الانتشار فإن مصر توفر لها كم هائل من الأبنية الأثرية والتاريخية. ولئن ظلت الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية فى الواجهة السياحية، إلا أن تلك الأبنية التى كانت تخص أعيان البلاد بقيت فى الظل سواء بسبب كثرتها أو بسبب انتشارها فى بقية المحافظات.
فى السنوات الأخيرة طرأ عاملان كان لهما تأثيرهما الفادح على تلك الثروة المعمارية الهائلة، الأول أن الاستثمار العقارى شهد إقبالاً كبيراً بعدما أصبح أهم وأضمن صور الاستثمار فى مصر، أما الثانى فهو ظروف الفوضى التى مرت بها البلاد خصوصا فى العام الأول لثورة ٢٠١١. وهى التى شهدت أكبر انقضاض ونهب للمبانى التاريخية والأراضى الزراعية. وبطبيعة الحال فإن الإهدار الذى تم لتلك الثروة التاريخية ما كان له أن يتم لولا الفساد المنتشر فى المحليات الذى تراوح بين الإهمال وإصدار تراخيص الهدم بعد الاحتيال على القانون.
فى هذا الصدد ذكر منسق مبادرة (أنقذوا المنصورة) المهندس مهند فودة أن عشرين مبنى من العقارات التراثية هدمت أو أحرقت بعد ثورة ٢٠١١ وإن المدينة تضم ١٢٠ عقارا آخر مهددة بالهدم. وإذا كان ذلك حظ مدينة واحدة بالدلتا، فلك أن تتصور الموقف فى بقية المدن، أو فى القاهرة. وقد قرأت أن المشكاوات الخديوية فى جامع الرفاعى بالقاهرة (عددها ٩٨ مشكاة) اختفت كلها وحل محلها نجف رخيص مما يُباع فى حى العتبة. وقد عرضت واحدة من تلك المشكاوات فى مزاد «كرستيز» بنحو ٣٩ ألف جنيه استرلينى تعادل نصف مليون جنيه مصرى. أى أن ثمن تلك المشكاوات التى سرقت يعادل ٤٩ مليون جنيه.
الكارثة متعددة الأوجه. وفساد المحليات وقصور القوانين، وغيبوبة المسئولين، هذه كلها عوامل لعبت الدور الأكبر فى استفحالها. وما يثير الانتباه فى هذا الصدد أن حملة إنقاذ الثروة التاريخية ينادى لها المجتمع من خلال النشطاء الغيورين فى حين أن الدولة غائبة تماما عن المشهد وتاركة الساحة للمافيات التى باتت تشن حرب إبادة منظمة على تلك الثروة.
إننى أفهم جشع الذين يتطلعون إلى التربح من وراء هدم المبانى التاريخية، لكننى لا أفهم أن تشجعهم أجهزة الدولة على ذلك بالتصريح تارة أو بغض البصر تارة أخرى. وإذ احترمت قرار محافظ الإسكندرية بالاستقالة من منصبه لأنه لم يستطع أن ينقذ المدينة من الغرق جراء الأمطار، فإننى لا أخفى دهشة إزاء وقوف مسئولى الآثار والثقافة متفرجين رغم عجزهم عن وقف حملة إبادة شواهد التاريخ فى أنحاء مصر.
ثم إننى لا أستطيع أن أحسن الظن بالقانونيين، الذين يسارعون إلى تقديم البلاغات ضد كل من ينتقد السلطة ورموزها إلى حد اتهامهم بالخيانة العظمى. فى حين لا يحركون ساكنا أمام تلك «المؤامرة» المفضوحة على ذاكرة الوطن وثروته المعمارية. أما الذين يهتفون لمصر ويتغنون بحبها فيبدو أن مصر التاريخ سقطت من حسبانهم، أو إن مصر بالنسبة إليهم باتت تعنى شيئا آخر لا نعرفه. إن هؤلاء جميعا ضالعون فى المؤامرة على التاريخ التى تنسج ضد مصر فى الظلام.
نقلاً عن "الشروق"