فهمي هويدي
لا دروس خصوصية بعد اليوم. كان ذلك عنوان التقرير الذى نشرته صحيفة «الأهرام» يوم الأربعاء الماضى (٢٩/٧) عن اجتماع رئيس الوزراء إبراهيم محلب مع المسئولين عن مديريات التعليم فى أنحاء مصر. وهو خبر سار لكل بيت مصرى اكتوى بنار أعباء التعليم الموازى الذى أصبح من الضرورات التى لا غنى عنها فى مصر طوال العشرين سنة الأخيرة على الأقل. وهو إعلان حين يصدر عن رئيس الوزراء فهو يعنى ـ إذا أخذ على ظاهره ـ أنه لن تكون هناك دروس خصوصية فى اليوم التالى. إلا أن المرء حين يصل إلى ذلك الاستنتاج فسوف يفقد حماسه وتتراجع حفاوته بكلام رئيس الوزراء. إذ لن يحتاج لبذل أى جهد لكى يدرك أن الأمر أعقد وأعمق بكثير من أن يعالج بقرار من رئيس الحكومة. وإذا تمعن فى الصورة جيدا فربما خلُص إلى أن اللجوء إلى الإجراءات المتسرعة يشكل إحدى السمات التى تتسم بها قرارات السلطة القائمة فى مصر.
لأن تقرير الأهرام ركز على كلام رئيس الوزراء، فلم يتح لنا أن نعرف ما إذا كان مديرو التعليم ناقشوا المهندس محلب فى كيفية تنفيذ قراره، أو عرضوا عليه الأسباب التى أدت إلى انتشار الدروس الخصوصية، وحدثوه فى الأجل المقترح لتنفيذ القرار أو الشروط الواجب توافرها لحل المشكلة. إذ من الواضح أن لقاء المديرين كان مقصورا على الاستماع إلى أفكار رئيس الوزراء وتلقى توجيهاته. وهو ما لم استغربه لأن ذلك تقليد متبع فى واقعنا الراهن، الذى يتولى فيه المجتمع دور المستقبل والمتلقى، فى حين تقوم السلطة بدور الناصح والمرشد والموجه.
لا أريد أن أقلل من الجهد الكبير الذى يبذله المهندس محلب فى كل اتجاه، ذلك أننا نراه طوال النهار فى مواقع العمل، ولا نعرف متى يجلس على مكتبه ويختلى بنفسه لكى يدرس ويخطط. لكننى أتحدث عن طريقة التفكير وأسلوب التصدى للقضايا العامة. ذلك أننى أقدر تفهمه لاستعصاء قضية الدروس الخصوصية، التى تحولت إلى وباء استشرى فى مصر وفى العديد من الدول العربية، لذلك تمنيت عليه إما أن يكلف جهة مختصة بدراسة المشكلة وتقصى جذورها واقتراح حلولها، أو أن يسأل المسئولين عن مديريات التعليم عن آرائهم فى كيفية التصدى لذلك الوباء الذى أرهق المصريين وكاد يلغى التعليم الحكومى ويسلم الأمر للقطاع الخاص كما حدث فى مجالات أخرى.
ما أفهمه أن الدروس الخصوصية ظاهرة أسهمت فى تشكيلها عوامل عدة، تتراوح بين تكدس الفصول وعجز الأبنية المدرسية عن استيعاب التلاميذ، وتدهور أوضاع المدرسين الذين يلجأون إلى مختلف الوسائل المشروعة لزيادة مواردهم المالية، إلى جانب ضعف أجهزة الرقابة وكثرة الحشو والتطويل فى المناهج والكتب المدرسية.. إلى غير ذلك من العوامل التى جعلت التعليم الحكومى طاردا للمدرسين والتلاميذ، ودفعت إلى إقامة التعليم الموازى الذى حل بصورة نسبية مشكلات الأساتذة ووفر فرصة أفضل لاستيعاب التلاميذ وهو ما أرهق الآباء والأمهات واستنزف مواردهم.
ما غاب عن المشهد كان غياب الرؤية والافتقاد إلى الدراسة الموضوعية للمشكلة التى لا أشك فى أن خبراء التربية والتعليم قتلوها بحثا ولهم آراؤهم القيمة فى كيفية علاجها. وإذ أتفهم أن الرغبة فى الإنجاز وراء التعجل بإصدار القرارات والمراسيم وربما القوانين أيضا، إلا أن الإخلاص والنوايا الطيبة وحدهما لا يكفيان فى حل الكثير من المشكلات المستعصية. لأننا نصحنا بأن «نعقلها» أولا ـ بمعنى بأن نقوم بما علينا ـ ثم بعد ذلك نتوكل ونشرع فى التنفيذ.
المشكلة فى جوهرها ليست مقصورة على الدروس الخصوصية أو التعليم لأن سياسة اللجوء إلى الإجراءات قبل توفر الرؤية التى تنفذ إلى العمق وتتقصى الجذور والعوامل الاجتماعية الكامنة وراء أى مرض أو ظاهرة، هذه السياسة لمسناها فى مجالات عدة أخرى. فقانون التظاهر وقانون الإرهاب من النماذج التى يضرب بها المثل فى هذا السياق. ذلك أن كلا منهما من قبيل الإجراءات التى اتخذت دون دراسة كافية لا لأسباب التظاهر ولا للعوامل الكامنة وراء الإرهاب. وترتب على ذلك أن مثل تلك القوانين عاقبت وما عالجت. وبعضها فاقم المشكلات ولم يعالجها. فقانون التظاهر دفع بأعداد من الشباب الأبرياء إلى السجون وقانون الإرهاب لم يوقف شيئا منه.
إن قوة السلطة مطلوبة لا ريب، إذ بغيرها ينفرط العقد وتسود الفوضى. لكن عقل السلطة مطلوب أيضا، ذلك أن تحكيم العضلات فى غيبة العقل يفتح الأبواب لشرور كثيرة أقلها أن يفقد القرار السياسى توازنه ويجهض مسعاه. والمغامرة تصبح أكبر والمزالق تغدو أخطر حين تغيب حلقات النقد والتمحيص والمراجعة المسبقة. بحيث لا يكون للحوار المجتمعى دوره فى إعداد القرار. والمجتمع الذى أعنيه فى هذه الحالة يمثله البرلمان أو المراجع المختصة أو القوى السياسية الفاعلة. وفى حالة الدروس الخصوصية التى تحمس رئيس الوزراء لإلغائها فى لقائه مع مسئولى مديريات التعليم، فإننى أعتبر قراره الذى أعلنه بمثابة إعلان نوايا، لن تتوافر ظروف تنفيذه فى الأجل المنظور.