فهمي هويدي
هذه العناوين نشرتها الصحف المصرية خلال اليومين الماضيين: حقوقيون: الانتهاكات غير مسبوقة (المصرى اليوم) ــ ٥ سنوات سجنا لضابط شرطة عذب متهما حتى الموت بالبحيرة (الشروق) ــ الخارجية: حقوق الإنسان ركيزة أساسية للتحركات المصرية (الأهرام). ما أثار انتباهى فى العناوين أنها إذا وضعت جنبا إلى جنب قد تعطى انطباعا بأنها توجه رسائل مختلفة ومتناقضة.
ذلك أن القارئ قد يحتار فى تفسيرها، إذ حين تكون الانتهاكات غير مسبوقة كما نقلت الصحيفة عن بعض الحقوقيين، فقد يكون مستغربا وغير مفهوم أن يحاكم ضابط شرطة لأنه مارسها وعذب مواطنا حتى الموت، لأنه فى هذه الحالة يطبق السياسة المعتمدة مع المحتجزين. خصوصا أن الشخص الذى مات من التعذيب فى قسم شرطة مدينة رشيد (اسمه على الكسبرى) كان متهما بحيازة سلاح دون ترخيص، ولم يكن «إرهابيا» ولا محتجزا على ذمة قضية سياسية. وتظل الحيرة تلاحق القارئ حين تقع عيناه على العنوان الذى يتحدث عن حرص مصر على الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان إلى الحد الذى يجعلها بمثابة ركيزة أساسية لتحركاتها وسياساتها الداخلية.
من جانبى لم أجد تناقضا بين العناوين كما قد يبدو، وبالتالى لم أستشعر تلك الحيرة التى يمكن أن يقع فيها القارئ، بل أننى وجدتها متناغمة وتوجه رسائل دقيقة إلى المتلقين. لذلك وتبديدا للحيرة ومنعا للبلبلة خطر لى أن أعرض قراءتى لتلك الأخبار، علها توضح مضمونها الذى تصورته متناغما كى لا يلتبس الأمر على أحد.
فالقول بأن الانتهاكات غير مسبوقة فرضية صارت من المعلوم فى السياسة بالضرورة. إذ بات ذلك محل إجماع بين جميع المنظمات الحقوقية فى مصر، المستقلة منها والمجلس القومى لحقوق الإنسان الذى عينته الحكومة متوقعة أن يرد لها الجميل.
أعنى أن الجميع متفقون على حدوث الانتهاكات، والخلاف حاصل فى درجته. أعنى أن النوع متفق عليه ولكن التفاوت حاصل فى الدرجة فقط، إذ بح صوت المنظمات المستقلة (١٤ أو ١٥ منظمة) وهى تندد كل حين بالانتهاكات، من الاحتجاز العشوائى إلى تمديد أجل الحبس الاحتياطى إلى التعذيب والاختفاء القسرى وإساءة معاملة المسجونين ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية... إلخ. أما المجلس القومى لحقوق الإنسان فقد كرر فى أكثر من مرة أن التعذيب غير ممنهج، وشهد ذات مرة بأن المعاملة فى السجون على ما يرام، فالرعاية الطبية متوافرة والطعام يكاد ينافس ما تقدمه فنادق الخمس نجوم، ولم يخل الأمر من تصريحات رسمية أخرى اعتبرت أن الانتهاكات مجرد أخطاء فردية ينبغى عدم تعميمها. أما كونها غير مسبوقة فذلك مما تجمع عليه المنظمات المستقلة التى لديها إحصاءات وبيانات موثقة تؤيد شهادة نشطائها معتمدة على المقارنة بين ما يحدث الآن بما حدث فى السابق. لذلك فالكلام لا تغليط فيه ولا مبالغة.
الخبر الثانى الخاص بالحكم بسجن الضابط الذى عذب مواطنا حتى الموت فى البحيرة ينبغى أن يقرأ بتمهل حتى يفهم على وجه صحيح. ذلك أن الضابط المتهم عمره ٢٤ عاما ومن ذوى الرتب الصغيرة (ملازم أول). أعنى أنه وهو فى بداية حياته العملية بدا ملتزما بثقافته وقام بتعذيب المواطن الذى وقع بين يديه. وأغلب الظن أنه استعرب إدانته، لأنه نفذ ما تعلمه ولم يفعل أكثر مما يفعله زملاؤه ورؤساؤه، ولا أستبعد أن يكون قد توقع أن يكافأ على حزمه وشدته، وعلى أسوأ الفروض فإنه يعلم مسبقا أنه لن يحاسب على فعلته، وأنه إذا حوكم وأدين فهناك حيل ومخارج كثيرة لتأمينه وتبرئته فى نهاية المطاف.
الأهم من ذلك أن الخبر تمت صياغته بصورة دقيقة نسبيا، ذلك أن الصحف التى نشرته ذكرت أنه أدين لأنه عذب مواطنا «حتى الموت». وهو ما يمكن أن يقرأ بحسبانه إدانة للضابط الشاب ليس لأنه عذب المواطن شأن غيره من المواطنين، ولكن لأنه بالغ فى التعذيب الأمر الذى أدى إلى مقتل الرجل، وهو ما ترتب عليه انفضاح ما جرى، وذيوع الخبر بين أهله وجيرانه ووصوله إلى الجرائد والمنظمات الحقوقية. بمعنى أن الأمر لو وقف عند حدود التعذيب فإنه يمكن التسامح معه باعتبار أن تلك هى القاعدة المعمول بها. أما إيصال المسألة إلى حد الموت فذلك هو المحظور الذى كان ينبغى تجنبه، ويستحق من يقع فيه أن يعاقب، بأن تشهر فى وجهه بطاقة الإنذار الصفراء، وليس الحمراء بطبيعة الحال.
أما بيان وزارة الخارجية الذى اعتبر حقوق الإنسان ركزية أساسية للتحركات المصرية، فقد جاء بمناسبة الاحتفال باليوم العالمى لتلك الحقوق. وكانت الوزارة مضطرة لإصدار بيان يغطى الموقف، فكلفت من كتب موضوع إنشاء بهذا الخصوص، لا لإقناع الأجانب الذين يعرفون أكثر مما نعرف من تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، ولكن لمخاطبة المصريين وسد الخانة حتى لا تبدو الوزارة مقصرة أمام الجهات العليا. ولذلك جاء بيان الوزارة متضمنا ما ينبغى أن تقوله جهة رسمية فى المناسبة. وبإبراز جريدة «الأهرام» له على الصفحة الأولى تحقق المراد وأبرأت الوزارة ذمتها أمام الجميع، وأكدت التزامها بالانضمام إلى قائمة المستنفرين للدفاع عن الدولة المصرية.
على الأقل فهكذا قرأت الأخبار، وخشيت أن يساء فهمها!
نقلاً عن "الشروق"