ما عاد ممكنا السكوت على استمرار التعذيب فى مصر، وما عاد مقبولا إعفاء القيادة السياسية من المسئولية عن استمراره.
(١)
هذه إشارات تثير الانتباه وتستحق الرصد: فى ١٢ أبريل الحالى ذكرت جريدة «الوطن» انه تقرر إجراء تحقيق مع اثنين من المستشارين، بعدما أفادت تحريات جهاز الأمن الوطنى أنهما شاركا فى وضع مشروع قانون لمكافحة التعذيب داخل السجون وأقسام الشرطة. فى ١٩ أبريل خصصت جريدة «المصرى اليوم» ست صفحات استعرضت فيها انتهاكات وزارة الداخلية، وذكر أحد التقارير المنشورة ان جهاز الأمن الوطنى الحالى لم يختلف فى شىء عن ممارسات جهاز أمن الدولة السابق «فى طريقة العمل التى تعتمد على التعذيب لانتزاع الاعترافات من المتهمين». وعن سجن أبوزعبل ذكرت انه: تعذيب بعلم الوصول. فى ٢٥ أبريل نشرت جريدة «الأهرام» تقريرا صادما ومروعا عما يحدث فى أقسام الشرطة. كان عنوانه كالتالى: من لم يمت بالتعذيب، مات بالاختناق. ومما ذكره التقرير أن الحياة فى أقسام الحجز بتلك الأقسام لا تليق بالإنسان ولا حتى بالحيوان! ــ وفى ٢٦ أبريل نشرت جريدة «الشروق» مقالة لزميلنا الأستاذ أيمن الصياد انتقد فيها محاولات تسويغ التعذيب وتبرير القمع. ونبه إلى أن التاريخ يحفل بهزائم دول تصورت أنظمتها أن لا قيمة لحقوق الإنسان أو كرامة المواطنين.
حتى إذا كان ذلك التتابع مجرد مصادفة، وهو ما أرجحه، فهى لا تخلو من دلالة جديرة بالملاحظة والإثبات، ورغم ما يشاع فى هذا الصدد من أن المعلومات التى خرجت إلى وسائل الإعلام جزء من الصراعات الحاصلة داخل أجنحة وقيادات وزارة الداخلية، إلا أن ذلك لا يلغى الملاحظة الأساسية المتمثلة فى اتساع نطاق الانتهاكات وشيوع التعذيب على نحو تجاوز الحدود وأصبح يفوق طاقة الاحتمال، خصوصا حين تعددت حوادث القتل بسبب التعذيب فى أماكن الاحتجاز. وهو تطور واكب انطلاق المظاهرات والتوسع فى الاعتقالات وتفاقم ظاهرة الإرهاب فى مصر على النحو الذى يعرفه الجميع.
فى أجواء سقوط حاجز الخوف بعد انطلاق ثورة يناير ٢٠١١، وبعدما أتاح التطور الحاصل فى وسائل الاتصال لكل صاحب قضية أن يرفع صوته ويعرض مظلمته، فإن قصص التعذيب ووقائعه ظلت متداولة طول الوقت فى محيط متابعى مواقع التواصل الاجتماعى. الجديد فى الأمر أن بعض الصحف القومية والخاصة المؤيدة للنظام دخلت أخيرا على الخط وفتحت صفحاتها لعرض المشكلة التى أصبحت رائحتها تزكم الأنوف وسيرتها على مختلف الألسنة فى داخل مصر وخارجها. بالتالى لم يعد انتقاد الانتهاكات مقصورا على المنظمات الحقوقية ودوائر النشطاء والضحايا وحدهم، وإنما علت الأصوات فى المجال العام، بحيث انكشف الغطاء عما كان محجوبا ومسكوتا عليه. وذلك مؤشر مهم لا ريب.
(٢)
حين ارتدى الفتى محمود محمد (١٨ سنة) قميصا قطنيا (تى شيرت) كتب عليه «وطن بلا تعذيب» تم اعتقاله منذ أكثر من ٤٠٠ يوم، ولايزال حبسه يتجدد حينا بعد حين. وحين انطلقت حملة بذات الاسم (وطن بلا تعذيب) فإنها لم تسلم من الملاحقة والاتهام، إلا أن مركز النديم لتأهيل وعلاج ضحايا العنف دأب على توثيق وتسجيل عمليات التعذيب التى تصل إليه أو يصل هو إليها. وسبق أن أصدر كتابا من نحو ٣٠٠ صفحة عن «يوميات التعذيب فى الفترة من شهر يونيو ٢٠١٣ إلى مايو ٢٠١٤» ــ وكنت قد أشرت فى ٧ مارس الماضى إلى أحدث تقرير للمركز وقعت عليه عالج أرشيف التعذيب خلال شهر فبراير من العام الحالى، إلى جانب تقرير آخر أصدرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان عن المسار الديمقراطى فى عام ٢٠١٤ الذى وصفته بأنه «معتم ومتعثر». وقد استلفت نظرى فى تقرير أرشيف التعذيب عن شهر فبراير، ان مركز النديم وثق ٨٢ حالة خلال الشهر، كان آخرها ما جرى للمحامى الشاب كريم حمدى (٢٣ سنة) الذى قتله التعذيب البشع الذى تعرض له فى قسم المطرية بالقاهرة، كما لفت نظرى أنه تم توثيق ١٣ حالة تعذيب فى قسم شرطة مدينة المنصورة وحده. وكنت قد تلقيت عدة كتب أصدرتها المجموعة المتحدة التى يشرف عليها الأستاذ نجاد البرعى المحامى، أحدها عنوانه «ضد التعذيب ــ خطة وطنية للقضاء على جريمة التعذيب» ــ والثانى عن المبادرة الوطنية لمناهضة التعذيب ٢٠١٥ ــ ٢٠٢٠، وهى خطة تنفيذية من إعداد الأستاذ عبدالغفار شكر نائب المجلس القومى لحقوق الإنسان. ومؤخرا تلقيت دراسة عن «التعذيب فى مصر» تضمنت قراءة لملفات ضحايا التعذيب، تضمنت بعض الملاحظات المهمة. وقبل ان أعرض لأبرز تلك الملاحظات ألفت النظر إلى أن التوسع فى ممارسة التعذيب حوله إلى ظاهرة متفشية فى السياسة الأمنية. وبالتالى فرضه كموضوع للتحقيق والدراسة من جانب المنظمات الحقوقية.
من الملاحظات التى أبرزتها الدراسة أن التعذيب فى السجون وأقسام الشرطة صار قاعدة وليس استثناء. وانه لم يعد مقصورا على النشطاء السياسيين وحدهم، لانه تبين أن ٧٦٪ من حالات التعذيب موضوع الدراسة كانت فى اتهامات لا علاقة لها بالأوضاع السياسية، بما يعطى انطباعا بأن التعذيب يتم بشكل روتينى ودون سبب واضح، وليس بالضرورة للحصول على اعترافات.
كما بدا ان الضرب هو الوسيلة الأكثر شيوعا، حيث تبين أن ٥٠٪ من الحالات التى تمت دراستها تعرضت للضرب بمختلف الوسائل. كما تبين أن المواطنين البسطاء، الأميين والحرفيين والموسميين والعاطلين عن العمل ــ الضعفاء والمهمشون بوجه عام ــ هم الأكثر تعرضا للتعذيب من جانب رجال الشرطة. ونسبة هؤلاء سبعة أضعاف المهنيين وخريجى الجامعات.
ثمة ملاحظات أخرى سجلتها الدراسة منها إحجام مصر عن التوقيع على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب رغم الدعوات المتكررة التى وجهت إليها بهذا الصدد. وهى الاتفاقية التى تضع معايير عالمية للحفاظ على إنسانية وكرامة المحتجزين، وتحد من المعاملة القاسية واللاإنسانية التى يتعرضون لها. كما أنها تنص على وضع معايير ونظام عالمى لزيارات دورية من جانب الهيئات الدولية والمحلية لأماكن الاحتجاز للتثبت من الالتزام بالمعايير المقررة.
من الملاحظات المهمة ان الدراسة أكدت على الحاجة الملحة لإعادة النظر فى التشريعات التى تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان. وهى الدعوة التى لم تلق استجابة من السلطة طول الوقت. وعلى سبيل المثال فإن المادة ١٢٦ من قانون العقوبات تضيق من نطاق تعريف التعذيب، إذ تعتبره فقط ذلك الذى يتم بهدف الحصول على معلومات أو انتزاع اعترافات، فى حين أنه بات يمارس كسلوك عادى يتم لأغراض أخرى كثيرة. فضلا عن أنه بات مستقرا فى مصر ان التعذيب يتم للتنكيل بالمعارضين وترويعهم دون ان يكون لذلك صلة بمسألة الاعترافات. من ناحية أخرى، فإن المادة ١٢٩ من القانون ذاته تنص على معاقبة من يمارس التعذيب بالحبس سنة أو بغرامة لاتزيد على ٢٠٠ جنيه. وهى عقوبة لا تتناسب على الاطلاق مع خطورة الجريمة التى تنتهك كرامة الإنسان وتهدر حقه.
(٣)
التعذيب ليس معزولا عن حزمة الأساليب والإجراءات التى تستخدم لممارسة القمع والتضييق على الحريات العامة. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إنه يمثل أعلى مراتب القمع، لأن مختلف الإجراءات الظالمة التى تتخذ بحق المواطنين قد تبخسهم حقهم أو تقيد حرياتهم أو تؤثر على مصالحهم وأرزاقهم، لكن التعذيب وحده يتجاوز الحط من كرامتهم إلى توقيع عقوبات بدنية تهدر إنسانيتهم وقد تفقدهم حقهم فى الحياة، كما حدث فى حالات كثيرة ليست بعيدة عن أذهاننا.
فى أى مجتمع متحضر يحترم كرامة الناس، يظل أمر التعذيب محسوما من الناحيتين السياسية والثقافية، وغير قابل للمناقشة أو الاجتهاد الذى يسوغه من أى باب. لذلك فإن تناولنا له لا يخلو من مفارقة، من ناحية لأنه يناقش قضية تجاوزها الزمن وأغلق ملفها فى ثقافة العصر. ومن ناحية أخرى لأن سقف المناقشة يبدو متواضعا ومنخفضا، لأن موضوعها هو كيف يمكن تحسين الأوضاع فى السجون ومراكز الشرطة، وليس لماذا يساق الناس إلى السجون أصلا دون وجه حق.
من ناحية ثانية، فإننا لا نستطيع أن نفصل بين استباحة كرامات الناس وانتهاك إنسانيتهم وبين استباحة حرياتهم. ذلك أن الخلاف بينهما هو فى الدرجة وليس فى النوع. بمعنى أن «الاستباحة» هى القاسم المشترك بينهما، ولكن التعذيب يمارسها بحق كرامة الإنسان وبدنه، فى حين تمارسها الإجراءات والقوانين بحق حريته وأمنه الخاص. وإذا حاولنا التفصيل فى هذه النقطة الأخيرة فسوف تبرز أمامنا قائمة طويلة من القوانين والإجراءات المقيدة للحريات التى صدرت خلال العام الأخير، بدءا بإطلاق مدة الحبس الاحتياطى الذى أصبح يستمر لأشهر طويلة وربما سنوات، وانتهاء بقانون الكيانات الإرهابية الذى أصبح سيفا مسلطا على رقاب كل النشاط الأهلى، ومرورا بالتوسع فى محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى وبقانون التظاهر وبالتعديلات التى أدخلت على قانون الجامعات لترهيب الأساتذة والطلاب.
الخلاصة أن التعذيب الذى يشكل أعلا مراتب استباحة المواطنين يكمل الدور الذى تؤديه القوانين المقيدة للحريات العامة، وذلك كله يعد ترجمة للسياسة الأمنية المتبعة وهى التى تعول على السلطة بأكثر مما تعول على المجتمع، وعلى الإجراءات والقوانين بأكثر مما تعول على التوافقات والحوار.
(٤)
إذا أردنا أن نكون أكثر صراحة وإنصافا فلا مفر من الاعتراف بأن مناقشة قضية التعذيب وتجاوزات الداخلية إذا كانت جزءا من تجليات السياسة الأمنية فهى أيضا جزء من السياسة العامة، أعنى أنها بما تمارسه لا تفعل أكثر من انها تنفذ السياسة العامة، لذلك فإن توجيه سهام النقد والاتهام لها دون غيرها يظلمها ويحملها بما لا تطيق، وهى التى تتحمل الكثير فى أوضاعنا الراهنة، حيث تتراجع أدوار مؤسسات عدة فى الدولة، وتطالب أجهزة الداخلية بأن تتصدى من جانبها لما ينبغى أن يقوم به غيرها، خصوصا فى المجال السياسى.
صحيح أن الدولة لا تأمر بالتعذيب، لكن بوسعها أن توقفه بقرار سياسى. ومختلف الإجراءات والقرارات القمعية التى تتخذ والقوانين الجائرة التى صدرت ما كان لها أن ترى النور لولا أنها إذا لم تكن تعبر عن إرادة سياسية، فإنها على الأقل تستجيب للهوى السياسى. ومما لاحظته فى الكثير من المعالجات التى تناولت انتهاكات حقوق الإنسان أنها دأبت على مخاطبة وزارة الداخلية والدوائر التى تشارك فى مطبخ القوانين، وهى العناوين الغلط فى هذه الحالة. لان الإرادة السياسية هى العنوان الصحيح الذى ينبغى أن يتجه إليه الخطاب. أدرى أن القيادة السياسية لا ينبغى أن تحاسب على كل كبيرة وصغيرة فى البلد، لكن السياسات العامة وحقوق وكرامة المواطنين هى من صلب مسئولياتها التى لا تستطيع التحلل منها. وإذا كان الخليفة عمر بن الخطاب قد ذكر أنه إذا عثرت بغلة فى بغداد فإن الله سيحاسبه عليها، فلنا أن نقول أيضا إنه إذا عذب مواطن أو قتل ظلما فى أى سجن فإن أولى الأمر فى مصر سوف يحاسبون جميعا أمام الله عليه، وتلك شهادة حق لا خير فينا إذا لم نقلها.