فهمي هويدي
إلى جانب المظاهرة الصاخبة التى يشنها العاملون بالحكومة ضد قانون الخدمة المدنية، هناك مظاهرة أخرى متواضعة يشنها «الفسابكة» ضد أداء الأجهزة المدنية. ليس لدى أى تحفظ على المظاهرة الأولى التى احترم حق المشاركين فيها فى التعبير عن رأيهم والدفاع عن حقوقهم طالما تم ذلك من خلال التظاهر السلمى. لكننى أشرت إليها لسببين الأول هو أن المظاهرة الأولى كانت من جانب الموظفين ضد الحكومة، أما المظاهرة الثانية فإنها من الجمهور ضد الموظفين. السبب الثانى أن مظاهرة العاملين بالحكومة خرجت إلى الشارع ولقيت اهتماما واسعا من جانب وسائل الإعلام. أما مظاهرة الفسابكة فهى متواضعة إلى حد كبير ولم تتجاوز الفضاء الالكترونى، لأنها ظلت فى حدود الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعى. وبالمناسبة فإننى لست صاحب وصف المدونين بالفسابكة (جمع الكلمة الأصلية). ولكننى وقعت عليه فى مقالة قرأتها للروائية العراقية إنعام كجه جى واقتبسته حين وجدت أنه يجمع عدة كلمات فى كلمة واحدة توصل المعنى. إلا أن ما لفت نظرى فى المظاهرة الأخيرة ليس فقط موضوعها، ولكن الشخصية التى أطلقتها والأسلوب الذى اتبعته فى ذلك. ولست أشك أن بطلة القصة لم يخطر على بالها أن تقود مظاهرة، ولكنها رغبت فى أن تنفس عن نفسها وأن ترفع صوتها بالاحتجاج والغضب، الذى كان له صداه الإيجابى من جانب آخرين، ومن ثم صارت «بطلة» رغما عنها.
بطلة القصة هذه فتاة فى مقتبل العمر، أغلب الظن أنها لم تتجاوز العشرينيات. عرفت فيما بعد أن اسمها هايا إبراهيم وأنها من الاسكندرية. وما ظهر منها أنها مليحة الوجه وخفيفة الظل، ولديها موهبة أو خبرة جيدة فى الأداء. (قيل لى إنها اعتادت أن تسجل خواطرها وانطباعاتها وتبثها على صفحتها فى الفيس بوك). صاحبتنا هذه لها قصة. ذلك أنها ذهبت إلى مكتب السجل المدنى لكى تستخرج بدل فاقد لبطاقة الهوية الخاصة بها. ووصفت رحلتها فى المكتب المذكور منذ لحظة اصطفافها فى الطابور وسط حرارة الجو الخانق وضجيج الواقفين وصياحهم وحتى وصولها بعد ذلك إلى الموظفة المختصة التى طلبت منها استيفاء بعض البيانات. وحين فعلت ذلك واخترقت الحشد مرة أخرى حتى وصلت إلى مكتبها، فإنها طلبت منها الصعود إلى الطابق الثانى من البناية لاستيفاء بيانات أخرى. فامتثلت واخترقت الحشد حتى وصلت إلى الموظف المختص الذى أضاف طلبات جديدة، ودعاها إلى الانتظار بعض الوقت. بعد ذلك طلب منها أن تدخل حجرة التصوير التى كان اختراق جموعها حلقة أخرى فى المسلسل، حيث الموظف واحد وأمامه حشد آخر من الواقفين، وحين وصلت إلى الموظفة المختصة مرة أخرى فإنها أضافت طلبا جديدا وأبلغتها أن المكتب سيغلق أبوابه بعد نصف ساعة.
الشاهد أن الفتاة ظلت تنتقل من مكتب إلى آخر وهى تتصبب عرقا، وكلما استجابت لما طلب منها وظنت أن معاناتها انتهت فوجئت بأن هناك طلبات جديدة عليها استيفاءها.
الأمر الذى ملأها بالسخط والغضب، مما جعلها فى التسجيل تعنف الموظفين الذين قامت بتقليد أصواتهم وحركاتهم. ثم تنتفض غضبا فى النهاية لأن كل ما طلب منها كان يمكن أن يتم دفعة واحدة بدلا من الإذلال والمهانة التى تعرضت لها، هى وغيرها بطبيعة الحال. وفى نهاية التسجيل قالت الفتاة بصوت غاضب: لماذا هذه المعاملة التى يختلط فيها الاستهتار بالمهانة؟ ألسنا بشرا؟
قلت إن الفتاة لم تكن تستهدف سوى تسجيل ملاحظاتها والتنفيس عن غضبها واحتجاجها ولم يخطر على بالها أنها بما فعلت مست وترا حساسا لدى كثيرين ممن يستشعرون نفس المعاناة فى تعاملهم مع الجهات الحكومية. وربما فوجئت حين وصل عدد مشاهدى التسجيل إلى ٣٢٧ ألف شخص والذين تضامنوا معها فى الغضب وانضموا إلى المظاهرة ٥ آلاف شخص على الأقل. وهو رقم لا يستطيع أن يحشده أى حزب شرعى فى مصر الآن. لم يكن شىء من كل ذلك مرتبا بطبيعة الحال. ولكن مصادفة فقدان الفتاة لبطاقتها وسعيها إلى استخراج بطاقة هوية جديدة، ثم روايتها للمغامرة التى خاضتها وتسجيلها تفصيلات معاناتها بالصوت والصورة، ذلك كله نقل المشكلة إلى المجتمع الذى كان جاهزا للتفاعل السريع معها. وهو ما يسرته ثورة الاتصال التى مكنت كل مواطن من أن يرفع صوته عاليا وأن يسمعه إلى محيطه دون رقابة أو توجيه أو مصفاة من أى نوع. حيث أصبح لكل مواطن جريدته الخاصة التى يسجل فيها خواطره وينقلها إلى الرأى العام. كما صار بوسعه أن يؤسس قناة تليفزيونية خاصة يسجل من خلالها ما يريد من صور وأحداث.
رسالة الفتاة تدق جرسا جديدا ينبه إلى معاناة المواطنين العاديين من تقاعس الروتين وبطء الإجراءات وتعقيدها فى المؤسسات الحكومية. وهى المشكلة التى يشكو منها الجميع منذ عدة عقود، ولا يبدو أن ثمة تفكيرا فى حلها فى الأجل المنظور. إن الحكومة المشغولة بالإرهاب تعطى وقتا كافيا لحل مشاكل المستثمرين والمتعثرين والتصالح مع رجال الأعمال الذين اتهموا بالفساد والهاربين. وذلك اتجاه إيجابى لا ريب، لكننى لم أفهم لماذا لا توضع مشاكل الناس وتعقيدات الأجهزة الإدارية المذلة لهم فى الحسبان، خصوصا أنهم من المتعثرين الحقيقيين، أم أنه ينبغى أن يكونوا من الفاسدين أيضا كى تحل مشاكلهم؟