فهمي هويدي
لا أعرف مدى جدية أو جدوى بعض المشروعات التى تبرزها وسائل الإعلام المصرية هذه الأيام. أحدثها حكاية التاكسى الطائر وفكرة القطار المعلق الذى يربط العاصمة بمحيطها. إذ رغم أنها قد لا تخلو من فائدة، إلا أننى لا أخفى شعورا بالاستياء والحيرة ينتابنى حين أطالع تلك الأخبار. الاستياء لأننى أرى فيها ترفا يخدم الذين لا مشاكل لديهم فى الانتقال على الأقل. والحيرة لأننى لا أرى فيها إبداعا من أى نوع، ولا تنمية من أى باب. وإنما هى من قبيل استنساخ أفكار الآخرين الذين حلوا مشاكلهم الأساسية وتفرغوا لتحسين حياتهم والاستمتاع بها، وذلك حقهم لا ريب، لكنى أراه فى ظروف بلادنا نوعا من التزيد يعبر عن خلل فى الأولويات وعن الاستخدام غير الرشيد للإمكانات.
يضاعف من الحيرة أننى ما عدت أعرف كيف نفكر فى حل مشكلة التنمية فى مصر، ناهيك عن أن أحدا لا يعرف من يفكر فى الموضوع. صحيح أن هناك رغبة شديدة فى الإنجاز، وأن ذلك تجلى فى الإعلان عن عدد من المشروعات القومية الكبيرة التى لها رنينها الجذاب، لكن هذه المشروعات إذا كانت قد عبرت عن قدر لا بأس به من الحماس وحسن النية، إلا أن الرؤية الاستراتيجة ليست واضحة فيها، ناهيك عن الابتكار والإبداع. بوجه أخص فإن المرء لا يكاد يجد فى تلك المشروعات استثمارا لا للبيئة المصرية ولا الإمكانات المحلية، وإنما هى فى أحسن فروضها فيها من الاستنساخ والتقليد، بأكثر مما فيها من الابتكار والتجديد.
لدىّ نموذجان أدلل بهما على ما أقول ألخصهما فيما يلى:
• خلال العام الأخير نشر الخبير الزراعى الدكتور محمود عمارة نحو 30 مقالة دعا فيها إلى مراجعة المشروعات القومية التى يعلن عنها تباعا. وظل طوال الوقت يحذر ويرن الأجراس منبها إلى أهمية التصنيع الزراعى فى بلد قامت حضارته على الفلاحة فى أول ثورة زراعية بالعالم. لكن المسئولين عنه عجزوا عن استثمار تلك الميزة، كما لم يحددوا بالضبط ماذا يريدون من الزراعة. وفيما فهمت من مقالاته التى تنشرها جريدة الوطن فإنه يلح طول الوقت على ترشيد استثمار الأراضى الزراعية الموجودة، للحصول على أكبر عائد منها عن طريق زراعة وتصدير التقاوى والنباتات العطرية والأعشاب الطبية وغيرها. بدلا من المغامرة بإنفاق الملايين أو المليارات فى استصلاح أراضٍ جديدة لا توفر للبلد العائد الذى يتمناه، ولا تغير كثيرا من اعتماده فى توفير 60٪ من احتياجاته الغذائية على الاستيراد من الخارج.
• على صعيد آخر وجدت أن بعض الباحثين المعنيين بالبيئة فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس شغلوا أنفسهم بدراسة الاستخدام الصناعى للمواد المتجددة، التى تتمثل فى البواقى الزراعية التى يتم التخلص منها (مثل قش الأرز وحطب القطن) أو التى توظف بشكل محدود للغاية مثل جريد النخل. وقد تم تطوير ذلك الجهد بإنشاء مركز تنمية الصناعات الصغير بالكلية فى عام 1990. واتسع نطاق عمل المركز بعدما صار ذلك محور عمل الجمعية المصرية لتنمية المجتمعات المحلية ابتداء من عام 2003 وحتى الآن. وخلال تلك الفترة حققت الجمعية إنجازات كبيرة فى هدوء وصمت، تم الاعتراف بها محليا ودوليا.
الأبحاث والتجارب التى أجراها أولئك العلماء أثبتت أن تلك البواقى الزراعية إذ تم استثمارها فإنها تفتح آفاقا هائلة للتنمية والتصنيع وتشغيل الأيدى العاملة. علما بأن بواقى قش الأرز وحطب القطن وغيرهما، تمثل 76 مليون طن فى مصر، و138 مليونا فى الدول العربية.
كما أن نواتج تقليم أشجار الفاكهة تمثل 3.9 مليون طن فى مصر و7.9 مليون طن فى الدول العربية. أما أشجار النخيل فمنها فى مصر 12 مليون شجرة ومجموعها فى العالم العربى نحو مائة مليون نخلة. وسوف يفاجئنا أن نعرف أن الجزء الأكبر من البواقى الزراعية يتم إعدامه والتخلص منه بواسطة إحراقه فى الحقول، الأمر الذى لا يهدر تلك الثروة فحسب، وإنما له تأثيره السلبى على البيئة على النحو الذى يلمسه الجميع فى مصر الآن.
تجارب الإفادة من البواقى الزراعية حققت نجاحا فى تصنيع أعلاف الماشية بقرية كفر العرب بمحافظة دمياط وفى إنشاء شركة الألياف النباتية فى قنا والمنصورة وفى تصنيع السماد العضوى النباتى بقرية فارس (محافظة أسوان)، أما النجاح الأكبر فقد حققته الأبحاث والتجارب التى أجريت على النخيل. إذ استخدمت خاماته فى صناعة الأخشاب ومنتجاتها وبدائلها التى تستوردها مصر حاليا من الخارج بما قيمته 4 مليارات جنيه سنويا. وهذا المشروع دخل حيز التنفيذ الآن فى قرية القايات بمحافظة المنيا. وفى الدراسة التى أجراها الدكتور حامد الموصلى، أستاذ الهندسة، الذى يدير المشروع مع نخبة من العلماء والخبراء، فإن المجالات المرشحة لاستخدام موارد النخيل فى المجالات الصناعية تتجاوز حدود الإنشاء والإعمار، إلى مجالات الصناعات الكيميائية والغذائية إلى جانب منتجات العلف والسماء والورق.. إلخ.
لأن الآفاق واسعة وثروة المليون نخلة فى العالم العربى تشكل قاعدة متميزة للاستثمار المتجدد فى مختلف الأقطار، الذى تقوده الخبرة المصرية وتنفرد به، فإن الدكتور الموصلى وفريقه المعاون يطمحون فى تبنى مصر فكرة استخدام النخيل فى التنمية واعتباره مشروعا قوميا نموذجيا نابعا من الواقع ومحققا نفعا للجميع لا حدود له.
لا أشك فى أنه من المفيد أن نتطلع إلى الشاطئ الآخر لكى نقتبس أو نتعلم مما لدى غيرنا، لكن من المهم أيضا أن نتحسس مواقع أقدامنا علنا نجد فى الأرض التى نقف عليها ما يعزز قدرتنا على تجاوز التقليد إلى الابتكار، ويعيننا على الخروج من أسر الاتباع إلى آفاق الابتداع.