فهمي هويدي
هذه قصة تصلح موضوعا لفيلم سينمائى مثير يصور الحياة الباذخة لأسرة مبارك الذين عاشوا حياة أمراء النفط، فاعتبروا مال الدولة ملكا لهم واغترفوا منه بلا حساب. وتفوقوا على أمراء النفط ليس فقط فى أنهم فعلوها بغير نفط، ولكن أيضا فى لجوئهم إلى الاحتيال والتزوير لتغطية نفقاتهم. أتحدث عن التقرير الحافل والمدهش الذى أعده الباحث الحقوقى حسام بهجت وبثه موقع «مدى مصر». إذ أورد فيه كمًا كبيرا من المعلومات الصادمة التى تصور بعضا من جوانب تلك المرحلة السوداء من تاريخ مصر، (لعلمك ليست هذه هى المفاجأة البحثية الأولى للرجل، لأن له بحثا آخر ربما كان أكثر أهمية، أثبت فيه بالتواريخ والأسماء ان أكثر من 90% من قرارات إخلاء سبيل «الجهاديين» الذين كانوا فى سجون مبارك أصدرها القضاء العسكرى والقوات المسلحة وليس الدكتور محمد مرسى).
اعتمد البحث الذى نحن بصدده على ملف قضية الفساد المالى التى اتهم فيها مبارك وأفراد أسرته، وهو يقع فى أكثر من ألفى صفحة. كما اعتمد على شهادات أشخاص انتدبوا للعمل فى القصر الرئاسى وكانت وظيفتهم الحقيقية هى تلبية طلبات وتكليفات الرئيس والهانم وابنيها، وزوجتى الابنين. وتلك الطلبات لم تكن لها صلة بالقصور الرئاسية المملوكة للدولة لأنها تتبع وزارة الآثار وليس رئاسة الجمهورية، ولكنها كانت تتعلق بالممتلكات الخاصة لأفراد الأسرة، من منازل ومزارع ومكاتب. وهذه التكليفات شملت الترميمات والتشطيبات وتغيير الديكورات، كما شملت شراء الأجهزة الكهربائية وقطع الأثاث ومستلزمات المطابخ. وكان من بين الطلبات الأولى التى تلقاها الضابط رفيع الرتبة الذى عين مشرفا هندسيا على المقار الرئاسية، أمر من الهانم بشراء خمس ثلاجات ألمانية لكل واحدة بابان. وأمر من مبارك نفسه لشراء مقعد خاص له ولحفيديه الصغيرين.
وكانت التعليمات واضحة فى ضرورة إخفاء طبيعة تلك المشتريات، وتصويرها على أنها تكاليف لأعمال صيانة وهمية لأبراج الاتصالات المنتشرة فى أنحاء مصر، بغرض توفير خطوط اتصال آمنة مع رئيس الجمهورية.
رغم أن التحقيقات الأولية أشارت إلى أن عملية الفساد هذه برزت منذ عام 1990، أى بعد تسعة أعوام من تولى مبارك للسلطة، إلا أن عدم توافر وثائق تكشف عن حجم الأموال المنهوبة فى تلك المرحلة المبكرة جعل النيابة التى تولت التحقيق فى الأمر تركز على التجاوزات التى حدثت فى الفترة من عام 2003 وحتى 2011. وقد قدرت النيابة المبالغ التى تم إنفاقها على الممتلكات الخاصة للأسرة فى تلك الفترة وحدها بنحو 125 مليون جنيه، تم الاستيلاء عليها من أموال دافعى الضرائب. وقد زورت مستندات صرفها كى تبدو وكأنها نفقات صيانة مراكز الاتصالات الرئاسية. وطول الوقت كانت عمليات التنفيذ وترتيب الأوراق والمستندات تتم من خلال شركة المقاولين العرب.
من أهم شهود القضية الضابط المهندس ذو الرتبة الرفيعة عمرو خضر الذى عين للإشراف الهندسى على المقار الرئاسية وضابط آخر كبير بالرقابة الإدارية، اسمه معتصم فتحى، الذى كان مع نخبة من زملائه مسئولين عن التحقيق فى فساد الوزراء ورؤساء الهيئات العامة.
ما جرى بعد ثورة 2011 كان بمثابة فصل مثير آخر فى القصة. ذلك أنه بعد سقوط مبارك تقدم معتصم فتحى ببلاغ إلى النائب العام اتهم فيه مبارك وكبار معاونيه بالفساد، تحديدا فى مجال تخصيص أراضى الدولة والوحدات السكنية. لكن البلاغ لم يتحرك طوال فترة حكم المجلس العسكرى. وبعد انتخاب الدكتور محمد مرسى جدد صاحبنا بلاغه إلى النائب العام ووجه اتهامه إلى رئيس الرقابة الإدارية بالتستر على نظام مبارك، وظهر على التليفزيون قائلا إن هناك 14 واقعة فساد محددة قدمها ضباط الرقابة ولكن رئيس الجهاز منع التحقيق فيها. حينذاك استدعى معتصم إلى رئاسة الجمهورية وأوصل شهادته التى أسفرت عن عزل رئيس الجهاز من وظيفته وتعيين آخر مكانه.
التحقيقات التى جرت مع عمرو خضر كشفت عن مفاجأة. ذلك أن الرجل أرشد المحققين إلى شقة فى التجمع الخامس بأطراف القاهرة كان قد احتفظ فيها بصناديق احتوت على 1007 فواتير بالمبالغ التى أنفقتها أسرة مبارك على ممتلكاتها الخاصة، ذلك أنه لكى يحمى نفسه ويؤمنها كان قد قام بتصوير الفواتير الأصلية، ومع كل واحدة نظيرتها المزورة والوهمية التى صرفت على أساسها قيمة المشتريات. وكانت تلك الفواتير من أهم الأدلة التى جرى الاعتماد عليها فى إدانة مبارك وأسرته.
فى التقرير وقائع كثيرة فضحت بذخ الأسرة الذى كان يغطى بأموال دافعى الضرائب. ديكورات مكتبى علاء وجمال اللذين أدارا منهما أعمالهما الخاصة، وتجهيز فيللا جمال التى اشتراها فى القطامية، والجناح الذى بناه المقاولون العرب فى قصر العروبة للحفيدة التى ولدت فى عام 2010. والمكتب الخاص الذى خصصته الهانم لنفسها فى فندق سيتى ستارز كونتننتال والفيللات الخمس التى امتلكتها الأسرة فى شرم الشيخ. وصولا إلى مزرعة جمال وعلاء على طريق الاسماعيلية التى تتمدد على 25 فدانا، ومدفن الأسرة الفاخر الذى بناه المقاولون العرب بعد وفاة حفيد مبارك.
هذا هو القدر الذى يمكن نشره من وقائع التقرير المثير، الذى أشك فى ان صحفنا «الحرة» تستطيع نشره كاملا. وعلى من يريد أن يغامر بالاطلاع على الكلام غير المباح فيه أن يبحث عن نصه الموجود على شبكة التواصل الاجتماعى، وليتحمل من جانبه مسئولية مغامرته.
"نقلاً عن الشرق الأوسط"