فهمي هويدي
لا أستطيع أن أصف الكلام الأمريكى الداعى إلى نزع سلاح المقاومة إلا بأنه من قبيل الوقاحة السياسية، وإذا قلت إنه هو نوع من القوادة والدعارة فمن عندك. ولا تثريب عليك فى ذلك، بل لعلك أدق وأصوب، وقبل أن أشرح حيثياتى فى ذلك فإننى أعتذر عن استخدام ألفاظ لا أذكر أننى أوردتها فى شىء مما سبق أن كتبت خلال الخمسين سنة الماضية، وإذ أرجو أن تسامحنى فى ذلك، أنوه إلى أننى اتكئ على «رخصة شرعية» فيما ذهبت إليه، مستمدة من سورة النساء، حيث تقول الآية 148: (إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)، وهى تسوغ لنا أن نأخذ راحتنا ونحن ننفس أنفسنا فى مواجهة الظلم، حتى إذا اقتضى ذلك أن تستخدم السيئ من القول، وأنا لم أفعل أكثر من ذلك، من ثم فلك أن تضيف ما شئت بعد ذلك فى وصف المشهد الفاجع والفادح الذى نطالعه فى غزة.
أصل الحكاية أن إسرائيل بعد المفاجآت والصفعات التى تلقتها من المقاومة، التى سببت لغرورها حرجا بالغا، وحين لم تجد أن الدمار الذى أحدثته لم يضعف المقاومة أو يكسر إرادتها، فإنها بدأت تتحدث عن ضرورة نزع سلاحها، وهو مطلب ينم عن درجة عالية من الصفاقة والبجاحة. ذلك أنه يدعو إلى تجريد الطرف الفلسطينى الذى اغتصبت أرضه من حقه فى مقاومة الاحتلال، وهو ما لم يحدث فى أى مرحلة فى التاريخ. وإن كان له مثيله فى الحالات التى هزم فيها الطرف الآخر هزيمة ساحقة، كما حدث مع اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أما أن يدعو المحتل إلى تجريد أصحاب الأرض من سلاحهم أثناء المعركة وفى الوقت الذى يصر فيه الأخيرون على تحدى الغازى المحتل، فذلك أعجب ما سمعناه حتى الآن، لكن إسرائيل معتمدة على ظروف مواتية دولية وعربية تسلحت بدرجة من الجرأة جعلتها تطلق تلك الدعوة الغريبة وغير المسبوقة. وكان موقفها مفهوما، لأنها ليست ضد سلاح المقاومة فحسب، ولكنها ضد المقاومة كلها من أساسها، ولو كان بمقدورها أن تستصدر قرارا من مجلس الأمن يدعو إلى منع مقاومة الاحتلال لفعلت، ومن يدرى فربما تدهور الوضع أكثر وأقدمت على تلك الخطوة مستقبلا، وإذا كانت ترأس الآن لجنة حقوق الإنسان المختصة بتصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة، رغم سجل جرائمها ضد الإنسانية، فلن يفاجئنا نجاحها فى استصدار قرار دولى يمنع مقاومة الاحتلال.
هذا الذى فوجئنا به حين صدر عن الدولة العبرية، تبنته الإدارة الأمريكية. وقرأنا يوم الاثنين الماضى 28/7 تصريحات على لسان وزير الخارجية جون كيرى وممثلة أمريكا لدى الأمم المتحدة سوزان رايس ذكرت أن تسوية الأزمة الراهنة ووقف العدوان الإسرائيلى على غزة يجب أن يقترن بنزع سلاح المقاومة الفلسطينية. وهو أمر مدهش ذكرنى بلافتة حملها أحد المتظاهرين الإنجليز الذين تجمعوا أخيرا أمام سفارة العدو فى لندن، وحمل لافتة كتب عليها عبارة تقول: إن لوم حماس على استخدامها الصواريخ ضد الأهداف الإسرائيلية، لا يختلف فى شىء عن لوم امرأة لأنها ثارت لشرفها وصفعت من اغتصبها، وهذا الذى أثبته على اللافتة رجل إنجليزى توافر له بعض العقل والضمير، داس عليه وشطبه المتحدثان باسم الإدارة الأمريكية، ذلك أن المطلوب أن تغتصب فلسطين ويمنع الفلسطينيون من ابداء أى مقاومة، وهو ما لا أرى فى تسويغه وتشجيعه أى اختلاف عن الدعارة والقوادة، وإذ أفهم أن هذه الأعمال الأخيرة صارت نوعا من «البيزنس» الذى يتم بمقابل يحصل منه القواد على جزء فى حين تحصل الضحية على نصيب منه، إلا أنه فى الحالة الفلسطينية التى نحن بصددها مطلوب أن تغتصب فلسطين بالمجان، ليس ذلك فحسب وإنما مطلوب منها أن تستسلم لمغتصبها ولا تسبب له أى إزعاج، وفى ظل هذا المنطق فإنها ترتكب جريمة كبرى إذا ما صفعته وهى فى ذلك الوضع المزرى والمشين، ويستمر مسلسل العجائب بحيث تصبح هى المعتدية فى نظر البعض، ويحق للمغتصب أن يثور لكرامته وكبريائه، وأن يشهد الجميع على أنه «يدافع عن نفسه»، وفى حلقة أخرى من ذلك المسلسل الغرائبى لا نعدم أطرافا تتضامن معه، وتصدق ادعاءه، أما أم الغرائب فتتمثل فى مطالبة الطرف الذى تعرض للاغتصاب «بضبط النفس»، واعتبار صفعاته التى وجهها إلى المغتصب «أعمالا عدائية».
هذا الذى ذكرته ليس مبالغة أو افتراضا ولكنه وصف لما حدث بالفعل، وما أوردته وسائل الإعلام فى مصر على الأقل. صحيح أن الطرف الفلسطينى الذى تعرض للاغتصاب وجه أكثر من صفعة موجعة للمغتصب الإسرائيلى فى الحرب الدائرة، إلا أن ذلك ما كان له أن يدفع من لديه حد أدنى من الانصاف ــ لا أقول النخوة أو المروءة ــ أن يوجه أى لوم له، لأن اللوم الحقيقى ينبغى أن يوجه فى كل الأحوال إلى المغتصب أولا وأخيرا.
وإذ نستغرب المشهد والمنطق المقلوب فيه، إلا أن تلك ليست المفاجأة الوحيدة، لأن تتابع الأحداث كشف لنا عن أننا لسنا فقط بصدد مغتصب وحيد اتهم بالوقاحة والصفاقة، وإنما صرنا بإزاء شبكة تعاونه وتسوغ له فعلته، الأمر الذى ينبهنا إلى أن جبهة المواجهة أوسع مما نظن، وأن المعركة ليست ضد طرف واحد، ولكنها صارت ضد أطراف عدة، وإذا لم تصدقنى فاقرأ صحف الصباح وأخبار الساعة، فهى أكثر إبانة وإفصاحا.