فهمي هويدي
من أخبار مملكة العجائب أن جمعا غفيرا من أهلها ضاقوا بالزيجة التى استمرت لأكثر من ثلاثمائة عام بين بريطانيا واسكتلندا، ورأوا أنهم سيكونون أفضل حالا فى ظل الطلاق. من ثم فقد توافق أهل السياسة على أن يتم الطلاق بإحسان إذا كان لابد منه.
وارتأوا أن استفتاء الناس على ذلك أفضل طرق الإحسان فى العصر الحديث. وتحدد يوم الخميس الماضى (18/9) موعدا للاستفتاء، الذى سبقه أكثر من 20 استطلاعا للرأى اتفقت كلها على أن المجتمع منقسم وأن حظوظ المؤيدين للطلاق والمعارضين له متقاربة. وكان ذلك شيئا عاديا ومفهوما، إلا أن ما كان عجيبا فى المشهد هو كيف أديرت معركة تحديد مصير اسكتلندا وكيف حسم الأمر فى نهاية المطاف. ذلك أنه من واقع خبرتنا فإن انقساما حول المصير بين طرفين بهذه القوة العددية لا يفترض له أن يمر بهدوء ولا ينتهى على خير. وإذا تذكرت أنه بين فريقين أحدهما يدافع عن استقلال اسكتلندا والثانى يؤيد بقاءها ضمن المملكة المتحدة، فستدرك على الفور أن الأمر بهذا الشكل يفتح الباب واسعا للتجريح والمطاعن التى تتعلق بالولاء لاسكتلندا والبراء من الإنجليز. وذلك باب له مزالقه التى نعرفها جيدا ويعد التخوين من أبرز عناوينها.
ما استغربته أن التنافس على شدته لم يتحول إلى معركة، ولم تستخدم فيه أسلحة التراشق التى تعرفها والتى تتراوح بين كيل الاتهامات والتلفيق والتجريح المتبادل الذى يستهدف هدم الأشخاص والرموز وليس هدم المشروع أو الفكرة. وأثار انتباهى أن الأمر تحول إلى موضوع للمناقشة تم الاحتكام فيها إلى الصالح العام الذى يتحقق للوطن وللمواطنين. فمؤيدو البقاء فى إطار المملكة المتحدة رفعوا شعار «معا أفضل»، لكن دعاة الاستقلال الذين كانوا على الضد منهم وصفوهم بأنهم يجسدون «مشروع الخوف»، وجاء أقوى تنديد بهم على لسان رئيس الوزراء اليكس سامون، الذى قاد الدعوة إلى الانفصال، حيث وصفهم بأنهم الأكثر بؤسا وسلبية وإحباطا، وأنهم يبعثون على الملل.
خارج هذا الإطار فإن المناقشات تركزت حول تأثير الانفصال على أمن اسكتلندا وما إذا كان ذلك سيكون فى صالح الفقراء أم الأغنياء. فذكرت حكومة أدنبرة مثلا أن دخل الفرد الاسكتلندى سوف يزيد بمعدل ألف جنيه استرلينى بعد 15 عاما، إلا أن وزارة الخزانة البريطانية ذكرت أن البقاء فى إطار المملكة المتحدة سيحافظ على مستوى أقل من الضرائب للمواطن الاسكتلندى، فى حين أن الانفصال سيحمل ذلك المواطن عبئا يعادل 1400 جنيه استرلينى ابتداء من العام المالى 2016 ــ 2017.
ما همنى فى الموضوع أن العملية تمت دون أى عنف لفظى أو مادى. فلم يحدث أن أريقت قطرة دم، أو يشتبك جمهور المتظاهرين مع الشرطة، التى لم تحتجز أحدا منهم. بل وجدنا فى أجواء التنافس والانفعال أناسا يلوحون بالأعلام ويوزعون الزهور ويعزفون الموسيقى وهم يتضاحكون.. إلى غير ذلك من المظاهر التى لا تكاد ترى إلا فى بلد هذبت الديمقراطية المستقرة أهله، فامتصت مراراتهم وقلمت أظافرهم، وأبقت على إنسانيتهم منزهة عن البغض والكراهية.
المظاهر التى من ذلك القبيل لا عد لها ولا حصر فى مملكة العجائب، ذلك أن استقرار قيمة تداول السلطة وتثبيت حاكمية القانون الذى يسرى على كل مواطن حاكما كان أو محكوما، ألغى القداسة التى اعتدنا إضفاءها على أهل الحكم. آية ذلك أننا قرأنا قبل أيام أن ملك السويد كارل جوستاف بجلالة قدره تعرض لحادث سير فى ستوكهولم، حين كان متجها إلى المطار للسفر إلى شمال البلاد. ولأنه لم يصب بأذى، فإنه أوقف سيارته واستقل سيارة أخرى أوصلته إلى المطار. قرأنا أيضا عن أن ثمة جدلا فى ألمانيا حول ارتفاع تكلفة وجبات الطعام التى تقدم لرئيس الجمهورية يواخيم كوك. الذى يتمتع بشعبية واسعة. فقد تبين من مراجعة حسابات الرئاسة أن إفطار الرئيس الذى يتكون عادة من المربى وقطعة «بان كيك» يتكلف ما يعادل 6 يوروات يوميا. وهو ما اعتبرته اللجنة المالية المختصة مبلغا أزيد من اللازم، خصوصا أن دافع الضرائب هو الذى يتحمل تكلفة الإنفاق على غذاء الرئيس. وحين راجعت اللجنة مصروفات وجباته فإنها وجدت أن مطبخه يكلف دافع الضرائب سبعة آلاف يورو حتى سنة 2015. وهو ما يرفضه المواطنون. وقال الخبراء المختصون إن صحة رئيس الجمهورية أمر مهم لا ريب، لكن إفطاره لا ينبغى أن تتجاوز قيمته 4 يوروات، الأمر الذى يستوجب إعادة النظر فى عقد الشركة التى تورد أطعمته. وقد يستدعى ذلك التحول إلى شركة أخرى تقدم عرضا أرخص. فى هذا السياق أذكر أن الرئيس الألمانى الأسبق كريستيان فولف كان يعيش فى مدينة هانوفر، إلا أنه حين انتخب رئيسا فى عام 2010 فإنه اضطر للانتقال إلى العاصمة برلين. إلا أنه لم يجد مكانا لابنه الصغير لينوس فى الحضانات الحكومية ذات الأسعار الرمزية فاضطر إلى تسجيل اسمه فى قائمة الانتظار لحين خلو مكان له.
لدى قائمة طويلة لأخبار من ذلك القبيل تعد من الغرائب فى بلادنا. التى تتحصن فيها مؤسسات الحكم فى أبراج عالية وترتفع فيها مقامات أهل الحكم بحيث يصبحون فى مصاف الآلهة التى لا تسأل عما تفعل، فى حين أنهم فى مملكة العجائب لا يسألون فقط عما يفعلون ولكنهم يسألون أيضا عما يأكلون.
إذا قال قائل إن المسلمين الأوائل فعلوا كل ذلك الذى نتوق إليه وأكثر منه ولذلك استحقوا وصف السلف الصالح، فلن اختلف معه، لكننى أصبحت استحى من ذكر ذلك لأن ممارسات الخلف باتت وحدها المشهودة والمرصودة، ولأنها كذلك فإنها محت صفحة السلف، حتى صرنا نحسد أهل مملكة العجائب ونتمنى لو صرنا مثلهم يوما ما.