فهمي هويدي
الرد بالقصف الجوى على قتل المصريين فى ليبيا مفهوم ومبرر، ولم يكن هناك بديل عنه، وهو يمثل إحدى الإجابات الصحيحة على السؤال ما العمل؟ لكن ما يحتاج إلى مناقشة وبحث هو ما إذا كان ذلك كافيا أم لا.
(١)
قبل الكلام فى الموضوع، ينبغى أن نضع فى الاعتبار عدة أمور هى:
• إننا بصدد تنظيم إجرامى، لاقلب له ولاأخلاق ولادين، ثم إنه لايعترف بقانون أو دستور أو حتى عرف. ومنذ أعلن عن إقامة دولته فى شهر سبتمبر من العام الماضى (٢٠١٤) لم يجد أعضاؤه من يوقف شرورهم أو يردعهم. إذ بعدما عمدوا إلى قطع رؤوس بعض الأجانب الذين وقعوا فى أيديهم، وفعلوها مع نفر من خصومهم فى سوريا والعراق، صدمنا إحراقهم للطيار الأردنى معاذ الكساسبة حيا، واقشعرت أبداننا حين تابعنا ما جرى للإيزيديين الذين دفنوهم فى مقابر جماعية بعد سبى نسائهم. إلى آخر قائمة الجرائم البشعة التى لطخت سجلهم بدماء العديد من الفقراء الأبرياء. من ثم فلا جديد فيما ذاع خبره مساء أمس الأول، فصدم كل المصريين وأوجع قلوبهم. لكن الجديد أنهم اجترأوا على توجيه رسالتهم إلى الدولة المصرية بذلك الاسلوب الذى ذهبت فيه الفظاظة إلى حد الجنون المرضى. وليس ذلك قبولا أو تهوينا من شأن جرائمهم السابقة، وإنما هو تنبيه إلى المدى الذى ذهبوا اليه فى التحدى والاجتراء.
ثمة جديد آخر يتمثل فى أنهم بما فعلوه أعلنوا عن خروجهم من محيط بلاد الشام، وانتشارهم خارج حدودها. فى سيناء والشمال الافريقى. وقد تناقلت التقارير الصحفية اخبار التحاق بعض الأنصار بهم فى سيناء كما فى ليبيا وتونس والجزائر.
• إن هؤلاء الذين ارتكبوا الجريمة فى ليبيا فرع عن أصل موجود فى المناطق التى سيطروا عليها فى العراق وسوريا، وأطلقوا عليها اسم دولة الخلافة الإسلامية. وقد اختاروا لها عاصمة مقرها محافظة الرقة بسوريا، وهو ما يسوغ لى أن أقول إن الرأس فى الشام والذيول والفروع فى المناطق والدول سابقة الذكر.
• إذا كانت داعش او دولة الخلافة لها وجودها الجغرافى فى بلاد الشام، إلا أن جذورها الفكرية خرجت من الجزيرة العربية. ذلك ان عقيدة السلفية الجهادية التى تشكل مرجعيتهم الأساسية تعتمد على تعاليم واجتهادات المدرسة الوهابية. وكتب شيوخ الوهابية هى المعتمدة فى مدارس الدولة الإسلامية، وإذا تتبعنا خط المسار الفكرى فسنجد انه استوطن فى محيط القاعدة التى راجت فى افغانستان ثم وجدت تلك الأفكار تربة مواتية لها فى سجون الاحتلال الأمريكى للعراق التى تخرج منها قادة تنظيم الدولة وزعماؤها.
(٢)
فيما يتعلق بالوضع فى ليبيا فإنه أكثر تعقيدا مما تصوره وسائل الإعلام عندنا. وقد ذكرت التصريحات الرسمية ان القوات الجوية المصرية قامت بعدة غارات على مدينة درنة التى تعد المعقل الأساسى لتنظيم داعش. وقد راجت فى وسائل الإعلام المصرية فى العام الماضى معلومات تحدثت عن وجود للمتطرفين المصريين هناك حيث إنهم يشكلون ما سمى بالجيش المصرى الحر (على غرار الجيش السورى الحر). وبمضى الوقت تبين ان تلك المعلومات ليست اكثر من شائعات جرى الترويج لها لأسباب تعبوية وسياسية، الأهم من ذلك أن «درنة» كانت بالفعل معقلا لعناصر التطرف والارهاب، إلا انها لم تستمر كذلك فى ظل تطور الأمور خلال السنوات الاربع الماضية، فقد انتشر فكر السلفية الجهادية فى بقية انحاء ليبيا، خصوصا فى محيط القبائل المحافظة التى ترتفع فيها معدلات الشباب المتدين، علما بأن المجتمع الليبى محافظ بالأساس، وبالتالى فهو مهيأ لاستقبال تلك الأفكار. اضافة إلى ذلك فإن ضعف السلطة المركزية وترامى الحدود الليبية فتح الباب لاستقبال اعداد غفيرة من النشطاء غير الليبيين، سواء من دول الجوار (تونس والجزائر بوجه اخص) ام اليمن والسودان، وقد انضمت إليهم اعداد من المسلمين المقيمين فى بعض الدول الغربية غير آخرين من الدول الافريقية المجاورة ( مالى والنيجر وتشاد).
ما أريد أن اقوله ان الليبيين الذين أعلنوا ولاءهم لداعش يشكلون جزءا من قبائل مهمة فى ليبيا تتولى حمايتهم، إضافة إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية بات يضم أعدادا غير قليلة من غير الليبيين ومن غير العرب. وهؤلاء أصبحوا منتشرين فى مختلف أنحاء البلاد.
لقد تم استهداف درنة، المدينة الساحلية القريبة من الحدود المصرية والتى تحيط بها الاحراش والغابات، وربما نجحت الغارات فى اصابة الأهداف الممثلة فى المعسكرات ومخازن السلاح. إلا أن هناك علامات استفهام بخصوص مصير ما هو موجود منها فى الأحراش المحيطة. وإذا صح أن الغارات اصابت كل أهدافها فى درنة، إلا ان الاسئلة تظل مثارة حول مصير قواعد داعش التى انتشرت فى أوساط قبائل الوسط (سبها التى احتجز فيها العمال المصريون قبل اعدامهم فى الوسط) إضافة إلى أقرانهم الموجودين فى بنغازى ذاتها (فى الشرق).
على صعيد آخر فمن الثابت أن عدد المصريين المنتشرين فى أنحاء ليبيا يزيد عددهم على مليون نسمة ووجودهم فى مختلف البلدان ومختلف شرائح المجتمع يشكل عاملا يصعب تجاهله فيما يخص أى عمل عسكرى مصرى، ولابد أن يثير انتباهنا فى هذا الصدد أن بعض المصريين الذين يتمسكون بالبقاء فى ليبيا رغم المخاطر والظروف الصعبة التى تمر بها البلاد، هؤلاء لايزالون يؤثرون الاستمرار هناك لاقتناعهم بأن وضعهم سيكون أسوأ لو انهم عادوا إلى بلدانهم. على الأقل فهذا ما نقله إلىَّ احد الباحثين حين طرح السؤال على عدد من الموجودين هناك، فسمع منهم الرد الذى ذكرت.
(٣)
لقد فهمت أن العمليات العسكرية سوف تستمر ضد معاقل داعش ومظانها، وذلك بدوره أمر مبرر ومفهوم، ورغم وجود المحاذير التى سبقت الاشارة إليها، إلا اننى اتمنى ان تأخذ المعلومات حظها الكافى من العناية والدراسة فى أى عمل عسكرى قادم، بحيث توضع فى الاعتبار الخلفيات التى ذكرتها، حتى لا تؤلب القبائل الليبية ضد مصر والمصريين، وحتى لا ترتفع اعداد الضحايا بين المصريين المنتشرين فى البلاد.
فى هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن ثمة ثغرة فى المعلومات أفضت إلى ما وصلت إليه الأمور حتى انتهت بإعدام الواحد والعشرين مصريا. ذلك انهم ظلوا فى قبضة داعش لأكثر من اربعين يوما، دون ان تتوافر معلومات عن اماكن احتجازهم أو مصيرهم.
لقد قرأنا بأن خلية ضمت عددا من الخبراء المصريين شكلت لمتابعة ما يهدد امن مصر وابناءها فى ليبيا، لكنى أخشى أن تكون تلك الخطوة قد اتخذت بعدما وقعت الفأس فى الرأس. لأنها لو كانت قد شكلت قبل ذلك وجرى ما جرى، فذلك يعنى انها فشلت فى مهمتها ولم تنجح فى إنقاذ المصريين من المصير الفاجع الذى لقوه.
وإذاجاز لى ان أذهب إلى ابعد فى المصارحة، فإننى أزعم ان موضوع المصريين فى ليبيا لم يؤخذ على محمل الجد. فلا تم تأمينهم فى أماكن تجمعاتهم، ولا حرصت الأجهزة الأمنية على ان تتواجد فى محيطهم. وقد قيل لى ان ثمة مجموعة من المصريين اختفوا فى شرق ليبيا التى يفترض انها منطقة خاضعة لنفوذ اللواء حفتر الذى تؤيده مصر، وهذه المجموعة المحتجزة منذ شهرين لايعرف أحد عنهم شيئا، لاعن خاطفيهم ولاعن أماكن احتجازهم ولاعن التهم المنسوبة إليهم.
(٤)
السؤال الذى يحتاج إلى مناقشة هادئة هو: إذا كان الإجراء العسكرى الحازم قد أصبح ضروريا من جانب السلطة المصرية فى الرد على بشاعة الجريمة التى وقعت، فهل نحن على ثقة من أن القصف الجوى سيحسم الأمر ويغلق الملف؟ ردى على ذلك بالنفى، لأن القصف يمكن أن يشكل ضربة موجعة حقا لكنه لن يحسم الأمر. إذ طالما بقى هناك مليون عامل مصرى، وطالما ظلت ليبيا ملاصقة جعرافيا لمصر، وطالما كان لداعش والسلفية الجهادية انصار ومريدون، فإن تكرار ما حدث للعمال المصريين سيظل واردا.
إذا صح ذلك فما هى الخيارات الأخرى؟ أعترف بأنه ليست لدى إجابة واضحة، لكننى اتمنى أن يفتح الباب لمناقشة تلك الخيارات، إذ يخطر لى مثلا ان نعيد التفكير فى نهج التعامل مع الملف الليبى، بعدما تبين ان المراهنة على المجموعة المتمركزة فى الشرق غير كافية، فضلا عن انها ليست بالقوة والتمكين الذى تصوره وسائل الإعلام المصرية، علما بأن كثيرين يعرفون أن بعض أنشطة تلك المجموعة تنطلق من أحد فنادق القاهرة وليس من طبرق كما تذكر البيانات الصادرة عنها.
أدرى أن البعض سوف يلوون شفاههم ويعتبرون مناقشة الفكرة محاولة لإضفاء الشرعية. على الطرف الآخر المسيطر فى طرابلس، والذى يرفض الاعلام المصرى الاشارة اليه إلا بالسلب، كما يتجاهله الخطاب السياسى المصرى بذريعة الشرعية. وأزعم أن هؤلاء يسقطون الحالة المصرية على الليبية ويتعاملون مع الملف الليبى انطلاقا من نهج الخصومة والاقصاء المطبق فى مصر. وهذا الاسقاط هو بداية الخطأ فى النظر السياسى للموضوع، لأن العلاقة بين الطرفين هناك مختلفة جذريا عن الوضع السائد فى مصر. ثم إنه من الثابت ان أيا منهما لم يستطع ان يلغى الآخر ويخرجه من الساحة الليبية، إذ لكل منهما حضوره وقواعده على الارض التى لا يستطيع الآخر تجاهلها، ولذلك فلا مفر من تفاهم يجمع الاثنين ويسعى إلى ايجاد حل يعيد الامن والاستقرار إلى الربوع الليبية، لأنه مالم يتحقق ذلك فإن الجماعات الارهابية ــ داعش وغيرها ــ ستظل ترتع فى البلد، وستظل مصدر تهديد للسلم الأهلى فى ليبيا وللأمن القومى المصرى.
هذا تفكير سريع فى المخرج الموازى الذى يكمل دور الحسم العسكرى، ويحاول أن يجعل للسياسة دورا فى حل الإشكال، أما إذا قررنا ان نخاصم السياسة فى داخل مصر وخارجها فينبغى الا نستغرب إذا دفعنا ثمنا باهظا لقاء ذلك.