سليمان جودة
لسنوات، عرفت عبدالرحمن الأبنودى، ربما كما لم يعرفه أحد من أبناء جيلى، وحين كنت أقضى معه أياماً وراء أيام، فى بيته بالإسماعيلية، فإنه من عمق ما صار بيننا من ود، يظل يدقق النظر فى وجهى، ثم يسألنى بضحكته الصافية: منذ متى بالضبط عرفتك وعرفتنى؟!
سافرنا معاً إلى النمسا، يوم أن كان الدكتور مصطفى الفقى سفيراً هناك، وقضينا فيها أسبوعاً ليس ككل الأسابيع، وفى قاعة فسيحة ألقى بعض قصائده البديعة، وكان معجبوه من المصريين والعرب يملأون المكان عن آخره، وقبل أن يبدأ فاجأ الجميع فقال: أنا أيضاً أعرف الألمانية، التى هى لغة هذا البلد.. ثم قال: نخ أيِّن تى!!.. وهى جملة بالألمانية تعنى: واحد شاى تانى من فضلك!.. وضجت القاعة بالضحك والتصفيق!
ثم سافرنا معاً من بعدها إلى أسوان، وإلى الأقصر، وإلى قنا، وإلى المنصورة، وإلى.. وإلى.. بامتداد مدن الجمهورية وفى كل اتجاه، وفى كل مكان كنا نذهب إليه، كنت أرى بعينى، أنه ما من صاحب كلمة يحبه الناس فى عمومهم، كما أحب المصريون الأبنودى!
لا أزال أذكر، كيف أننا كنا نقضى معاً ساعات ليلية طويلة على التليفون، من بيته هناك فى منطقة الضبعية، على أطراف الإسماعيلية، فهو مرة يقرأ لى آخر ما جرى به قلمه من إبداعاته الباقية، ثم هو مرة أخرى يكلمنى عن يومياته الأسبوعية التى كان يكتبها حينذاك على الصفحة الأخيرة من «الأخبار»، وإن نسيت، فإننى لا أنسى يوميات شيقة كان عنوانها: الفرخة وقعت فى البير!.. وكانت عن دجاجة سقطت يومها فى بئر فى الصعيد، وكانت الصحف قد نشرت الخبر، وكيف أن صاحبها نزل لينقذها، فغرق، فلما نزل ابنه ينقذه، غرق معه، وجاء قريب لهما، ليغرق معهما، ثم رابع، فخامس، وسادس.. وفى النهاية أنقذوا الفرخة، ومعها خرجت من البئر ست جثث، لستة من الغرقى!
كنت، إذا ذهبت إليه فى بيت الإسماعيلية، فإننا نقضى النهار فى البيت، على مسافة عشرة كيلومترات تقريباً من المدينة، ثم نقضى الليل كله، أو أغلبه، فى المدينة نفسها، مع مجموعة من أصدقائه الحميمين، وكان بينهم رجل جميل يعتقد بينه وبين نفسه عن يقين، أنه ذهب يوماً للعمل فى السودان، وأن الله قد مسخه قطاً هناك، ثم أعاده إنساناً من جديد، حين عودته إلى مصر، وكان يحدثنا كثيراً عن فترة القطة فى حياته، وكنا، مع الأبنودى، نسمع، ونضحك، وتتناثر من حولنا النكات، على ما يروى الرجل عن غرائب رحلته إلى الخرطوم!
وحين كنت أعود مع الشاعر العظيم، ليلاً، أو بمعنى أدق فجراً، إلى بيت الضبعية، كنا نمر فى طريقنا على مقبرته التى كان قد بناها وانتهى منها!
وكان، فى كل مرة، يتطلع إليها وهى مستقرة على جانب الطريق، ثم بحركة من يده يشير إليها ساخراً، وهو يقول: ليس الآن!.. وكأنه- يرحمه الله- كان يعرف أن سنوات لاتزال أمامه فى الحياة، وأن على المقبرة التى كنا نقطع الطريق أمامها، بسيارته المرسيدس القديمة، ذهاباً وإياباً، أن تنتظر!
وفى مساء أمس الأول، جاء ذلك «الآن» الذى كان الأبنودى يستمهله، كلما مررنا على المقبرة!.. جاء «الآن» بعد سنوات وسنوات!
جاء «الآن» أخيراً، بل أخيراً جداً، ليرحل هذا الشاعر الفذ، وليبقى لنا من بعده، أننا إذا كان علينا أن نختار عنواناً لحياته، فهذا العنوان هو: درس حى فى معنى الانتماء!
ذلك أنه إذا أراد أحد بيننا، أن يتعرف على حدود العلاقة الأمثل، بين المواطن، وبين وطنه، فليسترجع حياة الخال فى كل خطوة فيها.. كل خطوة دون استثناء!