سليمان جودة
بعد ستة أشهر من الآن، سوف يصدر قرار من مكتب استشارى أجنبى، بما يحسم موضوع سد النهضة، وسوف يعمل هذا المكتب خلال الأشهر الستة، من خلال لجنة ثلاثية اتفق وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا على تشكيلها فى اجتماعهم الأخير فى الخرطوم.
وأياً كان القرار الذى سوف يصدر، فإن الواضح منذ بدأت حكاية هذا السد، أننا مقبلون على أزمة فى الماء، بشكل أو بآخر، وأن ما سوف نحققه فى أفضل الأحوال، فى أمر السد، أن تبقى حصتنا المائية الحالية على ما هى عليه، فإذا ما بقيت الحصة كما هى، ثم زاد عددنا فى إجماله، وزادت حاجتنا بالتالى إلى كميات أكثر من المياه، أصبح نصيب كل فرد منا، مستقبلاً، من ماء النيل، أقل بالضرورة مما كان مُتاحاً للفرد نفسه، من قبل!
وعندما كان الرئيس السيسى لايزال مرشحاً رئاسياً، كانت هذه المشكلة حاضرة على رأس الموضوعات التى كان يتعرض لها، وينبه إلى خطورتها، وأظن أن أولويتها عنده قد استمرت بعد أن فاز فى السباق الرئاسى، ثم إلى اليوم.
غير أن المعضلة الحقيقية فى تقديرى، أن الإحساس بحجم المشكلة لايزال رغم ذلك كله، داخل حيز الرئيس نفسه، ولم تنجح الدولة بعد فى نقل الإحساس بها، كمشكلة، إلى الناس، بحيث يستشعر كل واحد منهم الخطر، وبحيث يتغير السلوك العام، بناء على هذا الإحساس بالخطر، وبحجمه الطبيعى، دون تهويل فيه، ولا تهوين من شأنه.
ولذلك فالمفارقة المدهشة، أن الرئيس فى الحقيقة، يخوض معركة سد النهضة وحده، دون أن يكون لدى المواطنين الهاجس نفسه الذى يسيطر على رأس الدولة، وهو يخوض معركته، وبالأدق معركتنا نحن جميعاً!
فلايزال السفه العام فى التعامل فى المياه على حاله، ولم يطرأ عليه أى تغيير من أى نوع، ولايزال استهلاك، بل تبديد المياه فى رش الشوارع، وغسل السيارات، مثلاً، كما هو، إذ يستحيل أن يكون هذا المواطن الذى يُغرِّق الشارع بالماء، أو يستخدمه فى غسل سيارته، لديه أدنى إحساس بأن عندنا مشكلة كبيرة فى المياه، ولو كان لديه ذرة من إحساس بقيمة قطرة الماء، وأهمية أن يستهلكها فى موضعها الصحيح، لما تصرف على هذا النحو المجنون الذى نراه كل يوم، وتراه الحكومة بصفتها مسؤولة عن البلد، ثم لا يحدث شىء!
ولاتزال الحنفيات المكسورة فى كل مصلحة حكومية، كما هى، ولو جاء شخص أجنبى، ثم رأى بعينيه كم الماء المهدر فى كل مصالح الحكومة، لقال إننا إما أن نكون مجانين أو نكون أغنى بلاد العالم فى مصادر المياه، ولابد أن الافتراض الأول هو الصحيح، دون نقاش!
ولايزال الفلاح يروى أرضه بالغمر، بما يعنى أنه يستهلك أضعاف أضعاف ما يجب أن يستهلكه، وكأن الدنيا من حولنا لم تعرف الرى الحديث بكل أنواعه، وبما هو معروف عنه من أنه كنظام حديث يصون كل قطرة ماء، ولا يستخدمها إلا فى مكانها تماماً!
أريد أن أقول إن أى مراقب للطريقة التى يتعامل بها مواطنون مع مياهنا، سواء فى الشرب أو فى رى الأرض، سوف ينتهى إلى نتيجة واضحة للغاية، وهى أن الرئيس بمفرده، يحس بعمق الأزمة، وأن الأزمة ذاتها لا وجود للإحساس بها مطلقاً ولا بحجمها، كما يجب، عند كل مواطن! ولا حل إلا بأن يحس كل فرد فينا بأن ماء النيل الذى يصل بيته أو أرضه أغلى من نفط الخليج، ثم يتعامل معه على هذا الأساس!
الوعى بالقضية غائب لدى أغلبيتنا الكاسحة، ولا يمكن للحكومة.. أى حكومة.. أن تنتصر فى قضية لا يتوافر الوعى الكافى عند الناس بها!