سليمان جودة
حين زرت هانوى، عاصمة فيتنام، قبل سنوات، أدركت أن فى الدنيا عواصم جميلة، ولكنها ليست مشهورة لدينا هنا، وأن باريس، ولندن، وروما، ليست وحدها العواصم البديعة فى العالم، وأن إلى جوارها عواصم أخرى تكاد تكون أجمل منها هى الثلاث معاً، وقد كانت هانوى، ولاتزال، من بين المدن التى تنافس أشهر العواصم فى هدوئها، وفى جمالها، ثم خصوصاً فى انتشار الأشجار فى شوارعها على نحو لافت حقاً!
ومن بين ما تشتهر به، مثلاً، أنها «العاصمة المورقة» أى التى تمتلئ أجواؤها بأوراق الشجر، وأنها «باريس آسيا» أى أن باريس إذا كانت جاذبة لكثيرين فى أوروبا وفى فرنسا وفى أرجاء الأرض، فإن هناك مدينة لا تقل عنها روعة اسمها: هانوى.
لماذا أقول هذا الكلام؟.. أقوله لأن هانوى مرت مؤخراً، بحكاية أقرب إلى حكاية حديقة المريلاند التى قطعوا أشجارها عندنا، ولكن، ما أبعد الفارق بين ختام الحكايتين، وما أشد حزنك وأنت تتابع ما تم هناك، قياساً على ما تم هنا.. ما أشد حزنك كإنسان!
ففى العاصة الفيتنامية حوالى 7000 شجرة نادرة، وليس مسموحاً لأحد بأن يمس ورقة فيها، ولكن، جاء وقت على الإدارة فى هانوى، وكان ذلك قبل عشرة أيام، قررت فيه قطع 500 شجرة، وليس لمجرد الرغبة فى قطع الأشجار، ولا لمجرد الرغبة فى العكننة على خلق الله، كما حدث فى المريلاند، ولا على سبيل الاستهانة المطلقة بالمواطن، كما جرى فى المريلاند أيضاً، ولا.. ولا.. إلى آخر السخف الذى سمعناه أثناء الإطاحة بأشجار حديقة المريلاند، وإنما لأن السلطات فى هانوى رأت فى الـ500 شجرة، خطورة على الناس فى الشارع!
ماذا حدث؟!.. هاجت الدنيا، وقام سياسيون كثيرون يطلبون وقف قطع الأشجار فوراً، وامتلأت العاصمة هناك بالغضب، فكان أن اعتذرت السلطة فى هانوى، للمواطنين، وكان أن جاء الاعتذار فى صدر نشرات الأخبار نفسها، وكان أن أعلنوا عن زرع شجرة جديدة، وفوراً، فى مكان كل شجرة جرى قطعها!
ماذا حدث عندنا فى المقابل؟!.. لم نسمع عن سياسى واحد.. سياسى واحد لوجه الله.. يعترض وبقوة على قطع أشجار المريلاند، ولم نسمع عن اعتذار لأبناء العاصمة، عن الاعتداء على حقهم فى أن يتنفسوا هواءً نقياً، وفى أن تكون مدينتهم مليئة بالأشجار، ولم نسمع عن عقاب من أى نوع، للشركة التى اجترأت على أشجار الحديقة وراحت تزيلها، دون أدنى إحساس بقيمة الشجرة، كشجرة، ولا بقيمة الخُضرة، كخُضرة، فى مدينة تختنق بأهلها، مثل القاهرة.. لم نسمع!
لاحظ أنت، أن الذى قطع فى هانوى هو السلطة الحاكمة نفسها، وأنها فعلت ذلك وأنها رأت فى الـ500 شجرة خطورة على الناس.. ثم لاحظ أنت أيضاً، أن الذى قطع عندنا، هو شركة أرادت أن تقيم جراجاً فى مكان الحديقة، أى أرادت أن تزرع المساحة بالأسمنت، بدلاً من الأشجار!
لا أمل فى إنجاز شىء حقيقى فى هذا البلد، إلا إذا آمن مسؤولوه بأن من حق الإنسان فيه أن يتنفس حياة، كما هو الحال فى فيتنام، لا أن يتنفس موتاً كما أراد له قاطعو أشجار المريلاند، وفى غياب تام للضمائر الحية فى أعماق مسؤولينا الكبار!