سليمان جودة
فى كل خطوة أخطوها خارج البلد، تظل أمامى صورتان، إحداهما حاضرة مرئية هناك، والثانية غائبة متخيلة هنا، فإذا جاءت المقارنة بينهما لصالحنا، كان ذلك من دواعى الفرح حقاً، ولكن هذا بكل أسف أمر نادر، بل نادر جداً، وإذا جاء على العكس، تمنيت لو أننا، على كل مستوى، أخذنا من تجارب الناس حولنا، فدرسناها، ثم استوحينا ما هو ممكن لنا فيها، لا أن نظل ندور حول أنفسنا، ثم نبدأ من الصفر، وليس من حيث انتهى الآخرون!
كنت قد غادرت إلى المغرب، الأسبوع الماضى، بينما الحكومة منشغلة عن آخرها بموضوع مياه النيل، وكان المهندس محلب، قد قام بتوقيع ما سماه «وثيقة حماية النيل»، وكان وزراؤه، من بعده، قد وضعوا توقيعاتهم على الوثيقة نفسها، وكان وزير الرى، يقول، ولايزال، إنه بصدد إزالة التعديات على النهر، وإن الحملة فى هذا الاتجاه سوف تبقى، وكان رئيس الوزراء يقول إنه سوف ينزل بنفسه لحماية النيل، إذا ما اقتضى الأمر.
ولا تعرف، وأنت تراقب هذا كله، ما إذا كانت حملة كبرى كهذه، تنطلق من إحساس متأخر لدى الحكومة بأن النيل مستباح، وأن استباحته قد طالت بأكثر من اللازم، وأن مياهه مهدرة فى أغلبها، وأن ذلك لا يجوز أن يستمر، أم أنها، كحملة، تأتى من إحساس آخر بأن مفاوضاتنا مع إثيوبيا، حول نصيبنا من ماء النيل، يمكن ألا تأتى بجديد، وأن علينا أن ندبر أمر أنفسنا، بما هو متاح بين أيدينا.. لا تعرف، ولكنها، على كل حال، صحوة محمودة، والمهم أن تدوم، ثم تنتقل إلى مراحل أخرى أهم، ليس أولاها تعليم الناس كيف يستخدمون الماء، وكيف يرشدون من استهلاكهم، ولا أخراها أن نعيد النظر، كلياً، وبسرعة، فى طريقة الرى التقليدى، التى ورثناها عن الفراعنة، ولاتزال قائمة إلى اليوم، وهى الرى بالغمر، بدلاً من أن يكون الرى بالطرق الحديثة، كالرى بالرش، أو التنقيط، أو غيرهما.
فى المغرب، قرأت ما يشير إلى أنهم يدركون أن مواردهم من الماء محدودة، وأن عليهم أن يعرفوا كيف يحافظون على ما هو متوفر منها، أولاً، ثم كيف يأتون بموارد جديدة منها.
مثلاً.. قرروا هناك إطلاق يد شرطة المياه فى القيام بمهامها، بما فى ذلك استخدامها القوة فى حماية كل قطرة ماء، وبما فى ذلك أيضاً تحويل محاضرها للنيابة العامة، وإنزال عقوبات كبيرة على المخالفين.
وقرروا مضاعفة غرامة تلويث الماء، من عشرة آلاف درهم مغربى، أى عشرة آلاف جنيه مصرى تقريباً، إلى خمسين ألفا.
وقرروا العمل، وفق حملة ممتدة، على تعليم الناس تعبئة مياه الأمطار فى بحيرات صغيرة، مرة، وفوق أسطح البنايات مرات، ثم الاستفادة منها، لأنها ثروة كبيرة، ولا يجب تبديدها بأى حال.
زمان، وحين كنا صغاراً، كنا عندما نذهب إلى الجامع، نجد أمامنا، ونحن نتوضأ عبارة تقول «لا تسرف فى الماء ولو كنت على نهر جار»، وهى العبارة التى لابد أن تكون أمام عين كل واحد فينا، على مدى ساعات الليل والنهار، فى الجامع وخارجه وفى كل مكان.
لابد أن تكون أمام أعيننا كلنا، لأن أى مراقب للطريقة التى نستهلك بها مياهنا سوف يلحظ، بالعين المجردة، أن المواطن إذا استهلك لتراً، مثلاً، فإنه يبدد عشرة فى المقابل، وبضمير بارد لا يستشعر مدى الجرم الذى يرتكبه!
علينا أن نكون كلنا مع الحكومة، فى حملتها من أجل النيل، ثم على الحكومة أن تعلم الناس كيف يكونون معها، بضمائرهم، قبل أن يكونوا معها بعقولهم وأياديهم، فما بين ضفتى النهر أغلى من البترول، إذا ما أدركنا قيمته على حقيقتها.
نهر من النفط يجرى لألف كيلو، ونحن لا ندرى!