سليمان جودة
لا تكاد تصدق عينيك، وأنت تتأمل ملامح الصورة التي طيرتها وكالات الأنباء، ونشرتها «الشرق الأوسط» لخمسة أشخاص، يرتدون سترات صفراء فوق سراويل قصيرة، ويطلقون لحاهم، ويقفون في صف، كتفا إلى كتف، وقد كتبوا على السترات، من الوراء، هذه العبارة بالإنجليزية: بوليس الشريعة!
حين تتأمل معالم وجه أحدهم، الذي كان قد أعطى وجهه للكاميرا، بينما أعطاها زملاؤه ظهورهم، تشعر على الفور، وكأنك أمام ناس هبطوا علينا من كوكب آخر، وأنهم، من حيث مجرد شكلهم، لا علاقة لهم بالكوكب الذي نعيش عليه.. أما ما يتعدى الشكل، فهو موضوع آخر تماما، كما سوف نرى حالا.
فالأشخاص الخمسة - لم يظهروا في أفغانستان، ولا في العراق، ولا حتى في سوريا، أو ليبيا.. وإنما ظهروا في قلب أوروبا.. نعم في قلبها.. وأين؟! في ألمانيا ذاتها.. ثم أين تحديدا فيها؟! في مدينة فوبيرتال، إحدى مدن الغرب هناك!
وعندما أقول بأنهم لم يظهروا في هذه الدولة الإسلامية، أو تلك الدولة العربية، فالقصد أن ظهورهم في دولة من دولنا المنكوبة هذه الأيام، قد يكون أمرا مفهوما في حدوده، وفي ظل «حالة» يظهر من خلالها التطرف حولنا، في كل اتجاه تقريبا، وكما لم يحدث أن ظهر بها من قبل.
أما أن يظهر بوليس للشريعة، في ألمانيا، حيث لا هي دولة مسلمة، ولا هي دولة معنية بتطبيق مبادئ الشريعة، فهذا هو الجديد حقا.. وإذا قيل في مقام التبرير إن المدينة التي ظهروا فيها، مدينة ذات أغلبية مسلمة، فإن هذا في حد ذاته، أدعى للدهشة والعجب، لأن وجود أغلبية كهذه، في مدينة ألمانية، أو غير ألمانية، في أوروبا عموما، ليس معناه أن تنشئ مثل هذه الأغلبية، البوليس الخاص بها، ولا أن تضع قوانينها الخاصة كذلك، وإنما هي تخضع في كل أحوالها، لقوانين الدولة التي تعيش على أرضها، فإذا لم تعجبها قوانين الدولة، فلتبحث الأغلبية، عندئذ، عن أرض أخرى لها!
ولست أتوقف عند المهمة التي رأى بوليس الشريعة في فوبيرتال أنه مكلف بها، وهي منع الناس في المدينة من أشياء كثيرة، من بينها ارتياد قاعات الموسيقى.. فهذا ليس فيه جديد.
ليس فيه جديد، لأن ملامح الأشخاص الخمسة، التي وصفتها لك، في أول هذه السطور، تقول بأنهم كارهون للحياة، وبما أنهم كارهون للحياة، فمن الطبيعي أن يسعوا إلى أن يجعلوا غيرهم على علاقة من الكراهية نفسها معها، فهذا شيء طبيعي، ومتسق مع نفسه جدا، وبما أن كل واحد من الخمسة، ومن غيرهم ممن قد يكونون مبثوثين في المدينة ذاتها، يكره الموسيقى إلى هذا الحد، أقصد حد أن يمنع الناس عنها، ويحرمهم منها، فليس لهذا من معنى، سوى أنه كشخص يظل مقطوع الصلة بالحياة، من حيث هي حياة، خلقها رب الكون، وأمرنا بأن نجد متعتنا فيها.
لست أتوقف عند هذا كله، لأنه في الحقيقة، أمر متوقع، كما أنه تحصيل حاصل من خلال ما نراه من وجوه التطرف أمامنا، ليستوقفني بعد ذلك، رد فعل سلطات ألمانيا نفسها، وهو رد فعل جاء وكأن الأشخاص الخمسة فعلوا ما فعلوه عن اتفاق مع سلطة الدولة الألمانية، وعن رضا منها، أو كأن هذه السلطة راغبة، بمعنى من المعاني، في أن يظهر «بوليس الشريعة» في هذا التوقيت، وبهذا الشكل، وفي هذا المكان، من أجل هدف ما!
فممثل الادعاء العام في المدينة قال بأنه سوف يعتبر السترات الصفراء، نوعا من الزي! وهو كلام، كما نرى، لا بد أن يصيبك بدهشة لا حدود لها، وربما بصدمة هائلة، لأننا لا نتكلم هنا عن سترات عادية، يرتديها أي مواطن، أو أي مقيم أجنبي في ألمانيا، ولكننا نتكلم عن سترات مكتوب عليها بالخط العريض: بوليس الشريعة! أي أنك أيها الممثل للادعاء العام الألماني، أمام بوليس ينازع بوليس الدولة، في دوره، وفي مهمته، وفي عمله! فمنذ متى كان الزي الذي ينتزع صاحبه لنفسه به سلطة البوليس زيا عاديا.. منذ متى؟!
ليس هذا فقط.. وإنما أضاف السيد الممثل للادعاء العام في فوبيرتال، أنه سوف ينتظر إلى أن يبادر بوليس الشريعة، بتوجيه أي شخص، إلى الابتعاد عن أي مرقص للموسيقى، وساعتها سوف ينظر هو، كممثل للادعاء العام، فيما إذا كان هذا التوجيه فيه نوع من الإجبار، أم لا؟!
لماذا؟! لأن مجرد تقديم نصح ديني، كما يقول السيد الممثل للادعاء العام لا يعتبر فعلا مجرّما يعاقب عليه القانون في ألمانيا!
فما معنى هذا؟! معناه أن الانزعاج الذي قد يساورك أنت أيها القارئ الكريم، من مجرد رؤية أشخاص بهذا الزي، وبهذه المهمة، في المدينة الألمانية، لا وجود له عن ممثل ادعائها العام. بل إنه، ومن خلال عباراته التي أوردتها لك، يكاد يحرض بوليس الشريعة على أن يمارس دورا في المدينة، مع شرط بسيط للغاية، هو ألا يمارس إجبارا على أحد، عندما يأتي ليمارس الدور!
ثم نعود لنسأل من جديد: ما معنى هذا أيضا؟!.. وسوف يكون معناه، أن ظهور التطرف، بهذا الوجه القبيح، من خلال «داعش» تارة، ومن خلال «بوليس الشريعة» الألماني هذا، تارة أخرى، يلاقي - فيما يبدو - هوى لدى الذين يحاولون في أوروبا وفي أميركا، أن يصوروا أنفسهم لنا، على أنهم ضده.. وهو لا يلاقي هوى عندهم، لأنهم يحبونه، لا سمح الله، وإنما يريدون استخدامه، وتوظيفه، وتشغيله، لحسابهم، وعلى حسابنا، لا أكثر، ولا أقل! فلننتبه لما يجري حولنا، ولنتطلع جيدا إلى ما يتخفى وراءه، وليس إليه هو