سليمان جودة
مساء أمس الأول كنت في باريس ومررت على نهر السين الذي يجرى في قلب العاصمة الفرنسية، كما يجرى النيل في وسط القاهرة، أو فيما بينها وبين الجيزة فتألمت ثلاث مرات!
وأخشى أن يكون هذا الألم من جانبى أو من جانب غيرى ليس جديداً، فلقد تألمنا طويلا على سوء حالنا في كل ركن ثم لم يحدث شىء، وكأن الواحد منا يكتب لنفسه أو يكتب فيما بينه وبين القارئ الكريم وفقط.. أما ما عداهما من أجهزة مختصة ومسؤولة وصاحبة شأن في الموضوع على طول البلد وعرضه، فيبدو أنه ليس طرفا فيه معنا.. أو كأن الكاتب أصبح يكتب ليتسلى ويستهلك وقته مع السادة القراء ليبقى كل شىء.. كل شىء.. بعد ذلك على حاله!
إن كل شىء حولنا ينطق بأننا لم نعرف قيمة النيل الذي يجرى تحت أقدامنا بعد، ولو عرفنا ذلك حقا لكنا أكثر رشدا في استهلاك كل قطرة تجرى بين شاطئيه في الرى أو في الشرب.. وإذا لم تكن تصدقنى فاذهب بنفسك إلى أي مصلحة حكومية أو حتى غير حكومية.. اذهب إلى أي واحدة من مصالحنا ومؤسساتنا، وحاول أن تتطلع إلى حنفيات المياه وكيف نتعامل مع الماء فيها، فإذا ألقيت أنت هذه النظرة هنا فاذهب من فضلك إلى أقرب أرض في الوادى أو في الدلتا لترى بعينيك كيف أن الفلاح لايزال يروى أرضه غمرا، وكيف أن في ذلك إهدارا لثروة مائية عندنا بلا حدود، وكيف أن أحدا لم يبادر بعد من بين مسؤولينا الذين يعنيهم الأمر ليوقف هذا الإهدار، وليجعل كل مواطن، وهو يشرب أو يروى أرضه، على يقين من أن قطرات الماء التي بين يديه أغلى في حقيقتها من النفط ذاته، وأن عليه أن يتعامل معها على هذا الأساس!
تألمت وأنا على شاطئ نهر السين تارة، ثم وأنا على ظهر مركب وسط مجراه تارة أخرى، لأنى رأيت بعينى كيف أن أصحاب هذا النهر، الذي لا يصل في اتساعه إلى نصف نيلنا، يحتفون به ويهتمون، كما يهتم الإنسان ببيته، ويحمون شاطئيه ومياهه ومجراه من أي عبث، ويجعلونك وأنت تمر بجانبه تتمنى لو أخذت صورة في مكانك، ليس لأنك في باريس، ولكن لتقول، فيما بعد، لكل من تراه إن هذا الذي يبدو في خلفية الصورة هو نهر السين، وإن أهله يدركون حقيقة قيمته، وإنهم يتصرفون على هذا الأساس كما يبدو لك في ملامح الصورة، وإنهم لا يسمحون لأحد، أي أحد، بأن يعتدى، في أي وقت، لا على متر واحد من شاطئيه على طولهما، ولا على قطرة واحدة من بين قطرات الماء في أعماقه، وكأن كلمة النهر عندهم تعنى التقديس ولا تعنى شيئا سواه!
تتطلع إلى النيل في أي جزء منه فيترسخ في داخلك شعور بأنه بلا صاحب، وأنه إذا كان له صاحب فهو لايزال يبحث عنه ولانزال نبحث نحن أيضا معه عنه دون جدوى لعله يظهر يوما ويوقف هذه الجرائم في حق النهر!