سليمان جودة
لا أصدق أن يكون الشاب حاصلاً على درجة الماجستير فى الجامعة، ثم يقف متظاهراً أمام مجلس الوزراء، طالباً من الحكومة أن تجد له وظيفة فى دواوينها العامة.. لا أصدق هذا، ولا أستوعبه، لولا أنه حدث من قبل مراراً، ولايزال يحدث، وكانت آخر المرات التى جرى فيها هى صباح أمس الأول بكل أسف!
أسارع من جانبى فأقول إنى بالطبع أتعاطف بقوة مع أى شاب باحث عن عمل، وأتمنى لو أننى ساعدته فى العثور على فرصة عمل، وأتبنى رغبته فى أن يجد شغلاً، ولكنى، فى الوقت نفسه، أتقبل أن يتظاهر عمال النظافة - مثلاً - أو غيرهم، أمام مبنى مجلس الوزراء، مطالبين بحوافز، أو بزيادة فى الراتب، أو بالتثبيت، أو... أو... إلى آخره. ولكنى لا أتقبل أن يكون الشباب الحاصلون على الماجستير واقفين إلى جوارهم، يرفعون المطالب نفسها.. لا أتقبله ولا أستسيغه، مع تقديرى بطبيعة الحال لكل واحد فيهم.
لا أتقبله ولا أستسيغه لأن الشاب الحاصل على درجة علمية كهذه أفترض أنا فيه أنه باحث من النوع الممتاز، وأنه صاحب عقلية نابهة، وأن مكانه، بالتالى، ليس عند الحكومة، ولا فى دواوينها العامة، لأن أى جامعة خاصة، مصرية أو غير مصرية، سوف تتخطفه فى هذه الحالة، ولأنه سوف يجد عروضاً، لا عرضاً واحداً، من مركز بحثى هنا، ومن آخر هناك، وسوف يكون عليه أن يرفض وظيفة الحكومة، حتى ولو سعت هى إليه.. أو هكذا نفترض.
إننى أعرف شاباً حاصلاً على درجة الدكتوراه.. نعم الدكتوراه لا الماجستير فقط.. وقد حدث أنه راح يتظاهر مع آخرين مثله، فى أيام حكومة الإخوانى عصام شرف، الذى كان كل همه أن يبدو أمامنا أنه مع الثورة، ومع الثائرين، ومع الثوار، بصرف النظر عن حقيقة موقفه وانحيازه الإخوانى، ولذلك فإنه قرر تعيين عدد من أصحاب الدكتوراه فى وظيفة بألف جنيه فى الشهر!
سألت الشاب عما يفعله بالألف جنيه، فلم يرد خجلاً، ورأيت فيها إهانة للشاب، وللدكتوراه التى يحملها، وللجامعة، ولكل قيمة علمية!
أريد أن أقول إن الشاب إذا كان قد تجاوز مرحلة البكالوريوس أو الليسانس وأصبح من أصحاب الماجستيرات والدكتوراهات، فلابد أنه قد نسى حكاية الحكومة، ووظائفها، ودواوينها العامة، ودرجاتها الوظيفية، وراح يحلّق فى أفق آخر تماماً.. أفق لا يؤمن بالوظيفة الحكومية، ولا يعتقد فيها، ولا ينتظرها، ولا يراها تناسبه على أى وجه!
إننى أخشى أن تكون درجة الماجستير قد وصلت هذه الأيام إلى حد لم تعد معه تؤهل حاملها لأكثر من وظيفة حكومية.. أخشى ذلك بشدة، لأنى وقت أن كنت مسؤول عن صفحة الرأى فى صحيفة «الوفد» ووقت أن كنت رئيساً لتحريرها، كانت تأتينى مقالات يحمل أصحابها درجة الدكتوراه، وكنت أسأل نفسى بعد أن أقرأ المقال منها: هل حقاً حصل صاحبه على الدكتوراه؟!.. بل كنت أسأل نفسى فى ألم: كيف جاز للجامعة أن تقذف إلى الشارع بخريج هذا هو مستواه فى لغته الأم؟!.. كيف يكتب «دكتور» مقالاً بهذه الرداءة، ثم لا يستحى وهو يطلب أن ينشره على الناس.
أعود لأقول إنى أشفق على كل شاب يبحث عن عمل فلا يجد، وأتألم له، ولكن.. حين يكون حاصلاً على الماجستير أو الدكتوراه فإننى أربأ به أن يتظاهر فى سبيل التعيين بالحكومة، وأهمس فى أذنه بأن مكانه ليس فى أى وظيفة من وظائف الحكومة أبداً، ولا على رصيف مبناها، وأن مكانه فى أماكن ومواضع مختلفة تماماً.. أماكن ومواضع أرقى وأعلى.. أماكن ومواضع تليق بالدرجة العلمية التى يحملها!