سليمان جودة
إلى هذا الحد يمكن أن يصل الخلط بين الأشياء عندنا؟!.. وإلى هذه الدرجة يمكن أن نخلط، ونحن نتكلم، بين دور المفتى فى قضايا الإعدام، ودور القاضى الذى يتولى القضية؟!.. إلى هذا الحد يمكن أن تصل الرغبة فى مهاجمة القضاء والقُضاة، ثم محاولة الإساءة إليه، وإليهم، بأى طريقة، حتى لو كانت طريقة مكشوفة؟!.. إلى هذه الدرجة يمكن أن يبلغ الهوى، ثم الغرض، ومعه المرض، إزاء القضاء، والقُضاة؟!
لقد أحالت المحكمة التى قضت على 14 من قيادات الجماعة الإخوانية، فيما يُسمى أحداث مسجد الاستقامة، بالإعدام، الأمر إلى المفتى ليبدى رأيه، كالعادة، فى مثل هذا النوع من الأحكام.
وما حدث هو أن المفتى أعاد القضية إلى المحكمة، ولم يشأ أن يقوم بما طالبته به المحكمة، وقيل فى أسباب إعادته القضية إلى هيئة المحكمة إنه يرفض الإعدام فيها، لأنه يرى أن الأدلة على المحكوم عليهم غير كافية!
المحكمة من جانبها أعادت إليه القضية مرة ثانية، وطالبته بأن يُبدى رأيه، فى حدوده، باعتباره مفتياً للجمهورية، لا قاضيا!
وهنا.. بل هنا بالضبط.. يجب أن نتوقف ثم ننتبه إلى أن المفتى، أى مفتى، حين تسأله المحكمة، أى محكمة، عن رأيه فى حكم إعدام تراه هى، فإنها لا تطلب منه أن يعمل قاضياً، وبمعنى آخر فإن طبيعة دوره فى قضايا كهذه لا علاقة له، أقصد دوره، بما إذا كانت الأدلة كافية أو غير كافية، فهذا من صميم عمل القاضى، والقاضى وحده!
وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن المحكمة تسأل المفتى، فى قضايا الإعدام كلها، عن رأيه، من الناحية الشرعية فقط، لا القانونية أبدا.
هذه واحدة، والثانية أن رأيه فى هذه النوعية من القضايا رأى استشارى تماماً، ومعنى استشارى هنا أن للمحكمة أن تأخذ به، وأن لها ألا تأخذ به، وهذه أيضاً مسألة لابد أن تكون واضحة كالشمس أمامنا، حتى لا نخلط بين الأشياء وبين الأدوار هذا الخلط الأعمى عندما نتعرض لها!
لست مع إعدام أحد، إخوانياً كان أو غير إخوانى، عن غير حق، ولا أنا ضد براءة أحد، بالمنطق نفسه، إذا ما توافرت أدلة البراءة، ولكنى فى كل الأحوال مع أن نحترم حكم القضاء، وأن نكون على يقين بأن للقاضى دوراً فى محكمته، وفى أحكامه، لا يليق أن ينازعه فيه أحد، أياً كان هذا الأحد، حتى لو كان هو المفتى شخصياً، وفى المقابل فإن للمفتى دوراً، فى فتاواه، وفى آرائه التى تتصل بالشرع، ولا يليق هنا كذلك أن ينازعه أحد فيما يخصه، بوصفه مُفتياً.
لا يفهم المرء، ولا يستوعب كيف يمكن أن تغيب عنا هذه الحدود الفاصلة بين المسائل، وكيف لم ندرك، منذ اللحظة التى رفض فيها المفتى إبداء رأيه، أن هذا لا ينال بأى مقدار من المحكمة، ولا من قضائها، ولا من قضائنا كله فى شىء، وأن المحكمة حين تُرسل إلى المفتى تسأله، فإنما تسأله عن أمور محددة، وواضحة تماماً، ولا يجوز له أن يتخطاها أو يتجاوزها، وإلا جاز لنا أن نطلب من المفتى أن يذهب ليجلس فى مكان القاضى، وأن يذهب هذا الأخير ليجلس فى مكان المفتى! ثم نتصور شكل حياتنا، عندئذ، إذا ما اختلطت فيها الأدوار على هذا النحو الفوضوى!
كفانا خلطاً بين الأشياء، والأشخاص، والأدوار المتعلقة بكل شخص فيهم، وكفانا هوى، وغرضاً، ومرضاً!