سليمان جودة
لأن اليوم، هو أول أيام العام الجديد، ولأننا نريده عاماً أفضل لنا، كبلد، عن العام السابق عليه، ولأن ذلك لن يحدث إلا إذا تصرف مسؤولونا فيه على نحو مختلف، عما كانوا عليه فيما سبق، فإننى أريد أن أقدم إلى كل واحد فيهم قصة ذات معنى، ففيها ما يكفى من الدروس، لمن أراد منهم أن يتعلم الدرس!
القصة من فرنسا، والبطل فيها هو الرئيس الأسبق جاك شيراك، الذى يقضى حياته هذه الأيام على كرسى متحرك!
وما أذكره الآن، أنى كنت فى باريس، منذ عدة أعوام، وكنت أتمشى مع صديق على نهر السين فيها، وكان معنا ثالث فرنسى، فأشار لنا إلى شقة فى أعلى عمارة تطل على النهر، وقال: هذه شقة الرئيس الأسبق شيراك، وفيها يقيم مع زوجته!
ولم يشأ رفيقنا الفرنسى أن يكتفى بهذا، وإنما أضاف أن الشقة التى تقع فى الدور السادس، ليست ملكاً لشيراك، كما قد نتصور، ولكنها هدية له من الشيخ سعد الحريرى، رئيس وزراء لبنان الأسبق!
لم أصدق وقتها أن شيراك، بجلالة قدره، لا يمتلك شقة فى عاصمة بلاده، وأنه يقيم فى شقة أهداها له الشيخ الحريرى، لأن بينهما صداقة عميقة تعود إلى أيام الأب رفيق الحريرى نفسه، يرحمه الله.
لم أصدقه حتى قرأت مؤخراً أن شيراك قرر مغادرة شقة الحريرى، إلى شقة أخرى استأجرها فى حى «سان جيرمان» فى باريس، بعد أن صار فى حاجة إلى شقة قريبة من الأرض، تناسب رئيساً يتحرك على كرسى بعجلات!
ومما قرأته أيضاً، أن شيراك أقام فى شقة آل الحريرى، ابتداءً من عام 2007، إلى العام الماضى، عندما أصبح عاجزاً عن الصعود إليها، فكان لابد من البحث عن شقة جديدة، وكانت المفاجأة، للذين قرأوا الخبر مثلى، أنه لا يملك شقة فى عاصمة النور كلها، وأنه مضطر لاستئجار شقة، فاستأجرها!
ولمن لا يذكر، فإن هذا الرجل الذى استأجر شقة ليعيش فيها آخر أيامه، كان رئيساً لبلدية باريس عام 1995، أى كان فى موقع المحافظ تقريباً فيها، ومع ذلك، لم يمتلك فيها قصراً، ولا فيلا، فضلاً عن أن يمتلك شقة، فلقد خرج من قصر الرئاسة، حين صار رئيساً فيما بعد، كما حدث أن دخله ذات يوم، ومن قبل الرئاسة، كان رئيساً للحكومة، ولذلك، فإن لك أن تتخيل مدى حُرمة المال العام فى بلد، لا يستطيع رجل كان فيه محافظاً، ورئيس حكومة، ورئيساً، أن يمتلك شقة فى عاصمة البلاد، فيعيش أيامه بعد الرئاسة فى شقة مهداة من أسرة صديقه مرة، وفى شقة مستأجرة مرات!
طبعاً، أكاد أسمع من يهمس ويقول: تقارن ماذا بماذا؟!.. وأقول: بالعكس، فلن يستقيم لنا حال إلا إذا قارنا أنفسنا بمن هم أحسن منا، لا بمن هم أقل، وإلا إذا كان هذا النموذج الفرنسى، فى تقديس المال العام، أمام كل مسؤول.. بل أمام عينيه!