سليمان جودة
لولا أن وزارة التربية والتعليم نفسها هى التى أعلنت أن مليوناً و800 ألف شاب، تقدموا لوظيفة مدرس، ما كنت قد صدقت الخبر، ليبقى بعد ذلك، أن المشكلة ليست فى أن هذا العدد الهائل قد تقدم، وإنما المأساة الحقيقية هى فى أن الوزارة سوف تختار منهم 30 ألفاً، وفقط، وسوف يكون على مليون و770 ألفاً أن يعودوا بعدها إلى بيوتهم، ومنها إلى الشوارع والنواصى!
كان الخبر منشوراً بالأمس، وكان الأمس ذاته ممتلئاً بأجواء الاحتفال بمرور 44 سنة على رحيل جمال عبدالناصر، رجل يوليو الأول!
ولا أعرف لماذا ارتبط الخبران عندى برباط واحد هو أن ثورة يوليو كانت قد رفعت، يوم قامت فى عام 1952، شعاراً شهيراً هو إقامة عدالة اجتماعية.
وقد كان هذا الشعار واحداً من مبادئ ستة مشهورة، قال رجال يوليو يومها إن ثورتهم جاءت لتحققها، مبدأ وراء مبدأ، فى حياة كل مصرى.
وقد كانت العدالة الاجتماعية، ولاتزال، أكبر من مجرد كيلو سكر، أو علبة زيت، يحصل عليها المواطن، من هذه الجمعية الاستهلاكية، أو تلك، كما أنها كانت أكبر بكثير من مجرد مبلغ من المال، سوف تضعه وزارة التعليم فى جيب كل شاب من الثلاثين ألفاً الذين سوف يقع عليهم الاختيار فى النهاية.. لا.. ليست هذه عدالة، ولا هى اجتماعية، وإنما هى بالكثير «إعانة» تضعها الدولة فى يد هذا، أو ذاك، من مواطنيها، وهى تعلم أنها لم تحل مشكلته كمواطن، مهما كان حجم الإعانة هنا.
العدالة الاجتماعية، فى صورتها الحقيقية، هى أن يكون لكل مواطن، نصيب عادل فى ثروة بلده، وهو لن يكون له هذا النصيب، إلا إذا حصل منذ البداية، على تعليم حقيقى يؤهله فيما بعد تخرجه، لأن يعمل عملاً كريماً، يتيح له عندئذ، أن يصل إلى جيبه، نصيبه المقرر وحقه من ثروة البلد، وبما أن مليوناً و700 ألف شاب قد خرجوا يبحثون عن فرصة عمل كريمة، لدى وزارة التعليم، ثم عادوا محبطين، فلا معنى لذلك، سوى أننا قد فهمنا العدالة الاجتماعية خطأ، منذ لحظتها الأولى، وسوى أن هؤلاء الشبان، الذين هم بمئات الألوف، إنما هم ضحايا مبدأ ارتفع ذات يوم، على يد «يوليو»، ثم كان هذا هو ختامه، بهذه الصورة المحزنة، على الصفحات الأولى من الصحف!
مليون و770 ألف خريج ملأوا استمارات المسابقة التى أعلنت عنها الوزارة، وسجلوا بياناتهم، وكلهم أمل فى أن يجدوا عملاً.. فقط يريدون عملاً، فإذا به، عند إغلاق باب المسابقة، وعند التصفية النهائية بين المتقدمين، طلب عزيز المنال.. بل مستحيل!
أى عدالة اجتماعية كانت «يوليو» تقصدها، وأى عدالة اجتماعية بالضبط، سعت هى إلى تحقيقها، إذا كان هذا العدد المخيف من الشباب، قد تخرج فى الجامعة، وأنهى تعليمه، وانتظر عملاً، وطارد أملاً، وسعى عن حق، وبجد، إلى أن يكون له نصيب من ثروة وطنه، فإذا به يكتشف فى لحظة، أنه قابض على هواء، وأن التعليم الذى يؤهل الشباب، فى أى بلد متطور، لأن يعمل، وينال بالتالى نصيباً من الثروة العامة، يؤهله عندنا لأن يتعطل، لا لأن يعمل، وإذا حدث وكان من الثلاثين ألفاً المحظوظين، فسوف يخضع لمظلة إعانة شهرية، لا لمظلة عدالة اجتماعية تجعله يشعر بأنه إنسان!
مليون و770 ألف شاب يريد كل واحد منهم، أن يكون «إنساناً» على أرضه، وفى وطنه، فلا يسعفه أحد!
مليون و770 ألفاً من الشباب يجردون كلامنا عن العدالة الاجتماعية من ثيابه كاملة!