بقلم - سليمان جودة
ضحايا الأجواء التى نعيشها هذه الأيام، ليسوا فقط الذين قد يصيبهم وباء كورونا بشكل مباشر، ولكنهم أيضاً الذين يرحلون تحت ظلال سحابته القاتمة، فيسقطون تحت قدميه فى الزحام، فلا يكاد يدرى بهم أحد، ولا يكاد يلتفت إليهم إنسان، رغم أن رحيلهم فى ظروف أخرى كان سيملأ الدنيا ويشغل الناس!
وفى المقدمة من هؤلاء يقف الأديب المبدع جميل عطية إبراهيم، الذى رحل قبل أيام فى مدينة بازل السويسرية، حيث كان يقيم منذ سنوات طويلة!.. وقد أبعدته إقامته هناك عن الناس فى القاهرة بعض الشىء، ثم جاء رحيله فى ظروف الوباء الذى يأخذ بخناق الجميع ليبعده أكثر.. ولمن لا يعرف، ففى بازل نفسها يقيم منذ عشرين سنة الدكتور حسن مصطفى، حيث يرأس الاتحاد الدولى لكرة اليد، منتخباً بجدارة لخمس دورات متعاقبة، ومتحدثاً عن بلده فى كل محفل بالصورة التى تليق!
عاش جميل عطية العامين الأخيرين يعانى أعراض ألزهايمر اللعين، فكان خلالهما مثل عمر الشريف، يرحمه الله، يتعرف على أقرب الأصدقاء بشق الأنفس، وفى أحيان كثيرة كان يخلط بينهم وينسى أسماءهم، فإذا ذكرها راح يتحدث عن أصدقاء زاروه، وتكون المفارقة المؤلمة أن هؤلاء الذين تخيل هو أنهم زاروه قد رحلوا منذ سنين، ولكن ألزهايمر يصورهم فى نظره أحياء!
وقد رحل فى غمرة الانشغال بالوباء، فبدا فى مشهد الوداع الأخير وكأنه مصطفى لطفى المنفلوطى، الذى غادر دنيانا يوم إطلاق النار على سعد زغلول عام ١٩٢٤، فلم يسارع أحد إلى جنازته، ولا مشى وراءه صديق يشيعه، أو كأنه طه حسين الذى أسلم الروح فى ذروة انتصارات أكتوبر ١٩٧٣، فمضى فى هدوء لم يكن يعرفه فى حياته الممتدة الصاخبة!
عن جميل عطية كتب الشاعر المغربى مهدى أخريف فقال: روايته «أصيلة» ذات قيمة أدبية معتبرة، ولكن قيمتها التأريخية لا تُقدر بثمن.. وكتب: اقترحت عليه إقامة أمسية أدبية فى إطار موسم منتدى أصيلة الدولى، وقلت له إن معالى الوزير.. يقصد محمد بن عيسى أمين عام المنتدى.. سيُسر بالاحتفاء بك، ليس لمكانتك الأدبية، ولكن لمكانة مصر منه منذ دراسته بها، وعمق روابطه فيها ثقافياً وسياسياً وإنسانياً!.. ثم كتب أيضاً يقول: من لم يعرف جميل عطية إبراهيم، لم يعرف شعور المسيح وهو يهتف: إلهى لا تنسنى!
رحم الله الأديب الذى جنى عليه الوباء.. وأعطى الله الدكتور حسن مصطفى الصحة وطول العمر!.. فكلاهما يمثل وجه مصر المضىء الذى عاشت عليه وبه تحيا!