أشعر بأن التفسير الذي أبداه الأمير البريطاني ويليام، دوق كمبريدج، لموقفه خلال زيارة قام بها قبل أسبوع إلى مدينة القدس، ليس هو الحقيقة التي علينا أن نأخذها عنه، ونقتنع بها، ونُسلم بأنها هي المُفسر الوحيد للموقف، ولا مُفسر غيرها!
وبمعنى مختلف، فإن التفسير الذي أعطاه الأمير يمكن أن يكون تفسيراً مقبولاً، ومعقولاً، ومفهوماً، على المستوى السياسي، وحسب، ولكن على المستوى النفسي العميق، يبدو الموقف له بُعد آخر، وتفسير آخر، ويمكن أن يقال فيه كلام آخر، بخلاف الكلام الذي قيل على لسان الأمير، ونشرته عنه الجرائد في صفحاتها الأولى!
والقصة أن الأمير الشاب كان في زيارة ثلاثية المحطات إلى المنطقة، وكان قد بدأها من الأردن، ثم مر بتل أبيب، ومنها انتقل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، وحيث كان على موعد مع زيارة إلى المسجد الأقصى، ثم مع جولة بين باحة المسجد وبين أركانه الأربعة. وفي كل محطة من المحطات الثلاث، كان قادراً على لفت الانتباه من خلال صورة التقطها هنا، أو كلمة نطقها هناك. ففي العاصمة الأردنية، مثلاً، تابعنا صورته متكئاً داخل خيمة عربية يتابع مع الأمير الحسين، ولي عهد الأردن، مباراة في كأس العالم كانت بريطانيا طرفاً فيها. وفي تل أبيب، أغضب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وأثار استياءه، ربما عن غير قصد، عندما وصف الأراضي الفلسطينية التي تهيمن عليها إسرائيل بأنها أرض محتلة!
وفي اللقاء الذي جمع بينه وبين عباس، وقع فيما وصفته صحف متفرقة بأنه هفوة دبلوماسية، عندما تحدث عن فلسطين باعتبارها بلداً، فقال في كلمته أمام أبو مازن، إن بلدينا - يقصد بريطانيا وفلسطين - سوف يفعلان كذا، وكذا، دون أن ينتبه إلى أن الرسميين الذين يتحدثون في مثل هذه المناسبات، يتجنبون وصف فلسطين بأنها بلد. قد يقولون عنها إنها سلطة فلسطينية، وقد يقولون إنها الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد يقولون إنها القضية، وقد، وقد، ولكنهم لا يذهبون إلى حد وصفها بأنها بلد!
وفي مدينة القدس جاء مَنْ يهمس إليه بدعوة إلى لقاء مع الإسرائيلي نير بركات، رئيس بلدية المدينة، فرفض الأمير على الفور، وأعلن رفضه على الملأ، وتناقلته عنه وسائل الإعلام، ومعه كانت الوسائل نفسها تتناقل سبب الرفض، وكان السبب أن قبول اللقاء يتناقض مع مواقف معلنة من جانب دوق كمبريدج مرة، ومن جانب حكومة بلاده مرة أخرى. فالحكومة البريطانية ترفض موقف حكومة إسرائيل في القدس، وكذلك يرفضها دوق كمبريدج. وكلا الموقفين كان وراء رفض اللقاء مع بركات!
وقد كان القبول باللقاء يعني اعترافاً منه بمواقف تل أبيب في المدينة. وهو ما لم يشأ الأمير أن يورط نفسه فيه، ولا أن يسبب به حرجاً لحكومة تيريزا ماي في لندن!
حسناً، هذا شيء جيد بالطبع، ولا يمكن إلا أن يُحسب لصاحبه، ولكن هل هذا هو حقاً التفسير المقنع لموقف رفض اللقاء؟! أم أن هناك مجالاً يتسع لتفسير آخر، يتقصى الأبعاد النفسية، ويتحسب لها، ويأخذها في الاعتبار، حتى ولو كانت بطبيعتها خفية وعصية على الظهور أمام العين؟!
إننا نعرف أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، كان قد اتخذ قراراً في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونعرف أن الدنيا قامت من بعدها، ولم تقعد بعد، ونعرف أن القضية عُرضت للتصويت في منظمة الأمم المتحدة على مستوييها: مستوى الجمعية العامة التي تضم كافة الدول الأعضاء في المنظمة، ومستوى مجلس الأمن الذي يضم خمس عضويات دائمة، بينها عضوية بريطانيا، وعشر عضويات تكتسبها عشر دول يجري اختيارها لعامين فقط، لتأتي في مكانها دول جديدة!
وحين جرى العرض على الجمعية العامة، فإن 128 دولة، من بين 192 دولة، هي مجمل دول العالم الأعضاء، قالت لا للقرار الأميركي بملء الفم. وليس معروفاً ما إذا كانت بريطانيا من بين هذه الدول التي أبدت اعتراضها أم لا؟! فقائمة بأسماء الدول التي قالت لا، والدول التي قالت نعم، لم تُنشر. ولكن المؤكد أن المندوب البريطاني قال لا عندما ذهب الموضوع إلى المجلس؛ لأن نتيجة التصويت أشارت إلى أن 14 دولة رفضت القرار، في مقابل دولة واحدة أيدته، ولم تكن هذه الدولة الواحدة، أو الوحيدة، سوى الولايات المتحدة طبعاً؛ لأنه ليس من المتصور أن تصوت واشنطن ضد نفسها!
بالتالي، فإن الموقف البريطاني في ملف القدس كان واضحاً؛ بل ومُعلناً، ولكن ليس هذا ما أسأل عنه هنا، وأنا أحاول الوصول إلى خلفيات موقف رفض اللقاء مع رئيس البلدية. فالموقف البريطاني في مجلس الأمن لا ينقصه وضوح، ولا تنقصه علانية، ولكن ربما ينقصه تفسير على مستوى مغاير.. تفسير على مستوى النفس، وما قد يعتمل فيها ويتفاعل داخلها، في مثل هذه الحالات!
فالأمير ويليام يعرف بالتأكيد، أن القضية الفلسطينية ترجع في أصلها إلى سبب بريطاني، هو الذي كان قد أنشأها في البداية، عندما صدر وعد بلفور الشهير، معطياً اليهود في العالم حق إقامة دولة لهم على أرض فلسطين، ولم يكن بلفور سوى وزير خارجية بريطانيا عام 1917، ولم يكن وعده الذي صيغ في 67 كلمة، سوى الأصل الذي تمتد إليه القضية من هنا إلى هناك، على بُعد مائة عام وعام!
وسؤالي الذي لا أملك له جواباً، وإنْ كنت أُخمن جوابه، يظل على النحو التالي: هل كان الأمير البريطاني يستشعر شيئاً من هذا، وهو يتجول في الأقصى، ويرفض لقاء نير بركات؟! هل كانت ذاكرته توحي إليه بأن بلفور كان هو السبب الأول في أن تدوم معاناة شعب فلسطين بكامله، من منتصف القرن العشرين إلى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين؟! هل كان ضميره يؤرقه، وهو يرى أرضاً فلسطينية محتلة، لا لشيء، إلا لأن صاحب الوعد الذي لم يكن يملك فيها سنتيمتراً، قد منحها لمن لم يكن يستحق أن يتملك فيها المساحة نفسها؟! هل كان رفض اللقاء مع بركات يعبر عن رغبة غير ظاهرة في التكفير عن ذنب لم يرتكبه هو، ولكن ارتكبه سياسي بريطاني شهير، أصدر وعده بغير أن يبالي بعواقبه على مواطني بلد بالكامل؟! وهل كانت حكومة ماي تستشعر الذنب نفسه، وهي تقف ضد القرار في المجلس ضد رغبة واشنطن؟! هل كان ذلك كله يتفاعل في لا شعور الأمير، ومن قبله في لا شعور الحكومة؟!
إن علم النفس قد يُبدي أحياناً ما تعجز السياسة عن إخفائه وراء ستار! وما يجري به اللسان، سواء كان المتكلم حكومة أو فرداً، قد يكون له وجه آخر لا نتبينه، وإنْ دققنا فيه النظر، ولا نراه!
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع