بقلم سليمان جودة
تقول وزارة الخارجية إنها مطمئنة إلى التزام إثيوبيا باتفاق إعلان المبادئ، الذى جرى توقيعه بيننا وبينها، ومعنا السودان، فى مارس قبل الماضى، وأقول إنى لست مطمئناً، وأظن أن هذا هو شعور مصريين كثيرين غيرى!
والقصة مع اطمئنان الخارجية بدأت صباح الجمعة الماضى، عندما نشرت «الشرق الأوسط»، التى تصدر فى لندن، حواراً مع وزير الإعلام الإثيوبى، قال فيه العبارة التالية: «إذا كان هناك من سيرى بعد انتهاء دراسات سد النهضة أنه سوف يتضرر فى ماء النيل، فهذه ليست مشكلتنا فى إثيوبيا!».
قرأت العبارة فى يوم نشرها، وشعرت بضيق شديد، وفكرت فى أن أعبر وقتها عن ضيقى فى هذا المكان، لولا أنى فضلت عن تجارب سابقة أن أنتظر!
بعدها بثلاثة أيام، عادت «الشرق الأوسط» لتنشر كلاماً على لسان المستشار أحمد أبوزيد، المتحدث باسم الخارجية، يقول فيه إن الوزارة اهتمت بالأمر جداً، بمجرد خروج الحوار مع الوزير إلى النور، وإنها تواصلت معه، وإنها حصلت من إثيوبيا على تطمينات، وإن الوزير قال للسفارة المصرية فى بلاده، تعقيباً على ما جاء فى حواره، إنهم ملتزمون باتفاق إعلان المبادئ!
وحقيقة الأمر أن ما حدث مع حوار وزير الإعلام تكرر من قبل مراراً مع مسؤولين إثيوبيين آخرين، وكانوا فى كل مرة، شأن الوزير بالضبط، يقولون الكلام، ثم يقولون عكسه بعد صدوره عنهم، إذا ما أثار مشكلة مع مصر!
ولو عاد أحد إلى ما كتبته فى هذا المكان، يوم توقيع اتفاق إعلان المبادئ، فسيكتشف أنى قلت إن بنود الإعلان فى حد ذاتها لا تبعث على الاطمئنان، من حيث صياغتها، لأنها لا تلزم الجانب الإثيوبى بشىء إزاءنا.
وأذكر تماماً أنى كتبت قبل التوقيع بـ24 ساعة، أطالب الرئيس، ليس بعدم التوقيع، وإنما بتأجيله ساعات، حتى يتم ضبط الصياغات فى الاتفاق، وحتى يتضمن بنداً واحداً يقول ما يلى باختصار، ووضوح: تعلن إثيوبيا التزامها بعدم الإضرار بمتر مكعب واحد من حصة مصر التاريخية والثابتة فى ماء النيل، والتى تبلغ 55 مليار متر مكعب سنوياً.
عبارة كهذه، لو جاءت فى صلب الاتفاق لكانت كافية لطمأنة أطراف الاتفاق الثلاثة عموماً، وطمأنة مصر خصوصاً، ولم نكن فى حاجة بعدها إلى كل هذا الجدل الذى لا يتوقف إلا ليبدأ من جديد!
وإذا شئت أن أكون أكثر دقة، فى كلامى عن اطمئنان الخارجية، المعلن على لسان المستشار أبوزيد، فسأقول إن اطمئنانى ينقصه الكثير، وإنه اطمئنان شفهى، إذا جاز التعبير، كاطمئنان الخارجية بالضبط فى حقيقته، لا لشىء، إلا لأن الدول لا تطمئن بعضها البعض، فى مثل هذه الحالات، بكلام شفهى، وإنما بكلام مكتوب يحمل إمضاءات المسؤولين الذين يعنيهم الأمر.
السادات، يرحمه الله، عندما طلب من إسرائيل أن تعيد إلينا أرضنا، راح يقرن مطلبه منها باتفاقية تم التوقيع عليها أمام العالم، عام 1978، وكانت تل أبيب تلتزم فيها، كتابة لا شفاهية، بإعادة أرض مصر المحتلة إليها، متراً متراً، وهو ما حدث على مرتين، واحدة منهما فى 25 إبريل 1982، والثانية فى مارس 1989، التى عادت فيها طابا إلى سيناء، ولم تفلح محاولات إسرائيل فى استبقاء طابا عندها، لأن الاتفاقية «المكتوبة» بيننا وبينها، كانت ترغمها على ألا يبقى عندها متر واحد من أرضنا.
كل كلام عن دراسات سد النهضة هو فى تقديرى تضييع وقت وتضييع ماء، وهو جهد لا طائل وراءه، وإذا شئنا شيئاً عملياً، وجاداً، فى هذه اللحظة، فليكن هذا الشىء هو إضافة بند إلى اتفاق إعلان المبادئ، يقال فيه المعنى الذى أشرت إليه، بوضوح لا يحتمل أى لبس، وماعدا ذلك لن ينتج فى الدعوى كما يقول أهل القانون!