بقلم: سليمان جودة
أجواء الارتياح التي ملأت سماء جامعة برينستون الأميركية، صباح السبت من هذا الأسبوع، أظن أنها وجدت أجواء مشابهة لها في القاهرة بالتوازي، رغم اختلاف الأسباب بين الحالتين!
والقصة تبدو طويلة وممتلئة بالتفاصيل، ولكن لا بد من روايتها بوقائعها وتفاصيلها، لأن فيها عند وقوعها قبل ما يقرب من قرن، الكثير من المعاني على المستويين الأميركي والمصري معاً!
فالجامعة التي تقع شرق الولايات المتحدة كانت قد أعلنت رفع اسم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، من فوق مبنى كليتها للعلاقات الدولية، في خطوة بدت مفاجئة بالتأكيد للكثيرين ممن يعرفون شيئاً عن مسيرة ويلسون، أو يطالعون اسم هذه الجامعة العريقة من وقت إلى آخر، مقروناً بإنجاز علمي يكون قد تحقق في قاعة من قاعات العلم فيها!
كان السبب على مستوى الجامعة أن هذا الرجل الذي جاء إلى الدنيا سنة 1856، وحكم الولايات المتحدة لفترتين رئاسيتين من عام 1913 إلى 1921، ومات بعد مغادرة الحكم بثلاث سنوات، قد سمح خلال وجوده في البيت الأبيض بسياسات عنصرية في بلاده، تجعل من الصعب القبول ببقاء اسمه مرفوعاً على مدخل الكلية التي يقصدها طلاب من أنحاء العالم!
لم يشفع للرئيس ويلسون الذي كان رقم 28 في ترتيب الرؤساء الأميركان، أنه كان بمثابة الأب المؤسس لمنظمة عُصبة الأمم، تلك المنظمة التي قامت خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية، بدور مشابه لما تقوم به منظمة الأمم المتحدة في الوقت الحالي!
ولم تكن جامعة برينستون وحيدة في الإجراء الذي أقدمت عليه، لأن جامعة مونماوث في ولاية نيوجيرسي قد سبقت فاجتمع مجلس أمنائها، وقرر إزالة الاسم نفسه من مدخل قاعتها الكبرى، التي ظلت تزدان به سنوات طويلة وسنوات!
فأيُّ لعنة أصابت اسم الرجل الذي بقي أعواماً تقترب من المائة سنة يتردد داخل الولايات المتحدة وخارجها، بوصفه اسماً كبيراً في قائمة أسماء الرؤساء الذين سبقوه، وكذلك الذين جاءوا لاحقاً إلى أيام ترمب الحالية في تاريخ البلاد؟! أيُّ لعنة حلّت على ويلسون الذي لا يزال اسمه منقوشاً فوق مبنى المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف إلى الآن؟! ففي هذا المبنى قامت عصبة الأمم واتخذته مقراً لها إلى أن حلت الأمم المتحدة محلها في أعقاب الحرب الثانية!
أيُّ لعنة جعلت جامعة برينستون التي كان هو رئيسها ذات يوم، تجتمع على وجه السرعة وترفع اسمه من فوق أشهر كلياتها للعلاقات الدولية، كأنه اسم يدعو إلى الخجل ولا يشرف المكان؟! أيُّ لعنة دفعت «مونماوث» إلى المبادرة برفع الاسم من فوق قاعتها الكبرى في مبناها في ولاية نيوجيرسي، التي كان ويلسون حاكماً منتخباً لها ذات يوم أيضاً؟!
إنها لعنة جورج فلويد الشاب الأسود الذي مات مختنقاً، وهو يقاوم ليتنفس تحت ضغط من ركبة شرطي أميركي أبيض، فأيقظ طوفاناً من المشاعر الساخطة في الولايات المتحدة وفي خارجها على السواء. وما لبث الطوفان حتى ارتد إلى الوراء يحاسب بأثر رجعي كل الذين ثبت تاريخياً أنهم تورطوا في فعل عنصري مشابه في أي مكان، وقد رحنا على مدى أسابيع نتابع وقائع ارتداد الطوفان، وعشنا نرصد ونشاهد تماثيل لأسماء كبيرة حول العالم وهي تسقط من فوق منصاتها في الميادين، ثم يجرها الغاضبون ويقذفون بها في عمق البحر، وهو ما حدث في بريطانيا على سبيل المثال!
من سوء حظ الرئيس الثامن والعشرين، أن لائحته في هذا الملف ليست بيضاء، فلقد سمح لولايات الجنوب بممارسة الفصل العنصري، عندما كان حاكماً في مكتبه الرئاسي البيضاوي، ولم يعترض على الوزارات الفيدرالية وهي تفصل الموظفين السود عن الموظفين البيض في أثناء أعوامه الثمانية. كل هذا ثابت في حقه، ومكتوب في سجله، ومنقول عنه في صفحات التاريخ!
وقد شاءت جامعته التي رأسها يوماً، أن تخفف من وقع قرارها على المعجبين بالرئيس الأسبق، وبما قدمه رئيساً للبلاد والولاية والجامعة، فذكرت هذه العبارة في آخر القرار: لا ينفي قرارنا تقديراً مستحقاً لويلسون على إنجازات قدّمها في حياته!
وهي عبارة تقال على استحياء، وتشير إلى أن محاسبة مؤسس عُصبة الأمم على سكوته عن التمييز والفصل العنصري، لا تعني نسف مسيرته بكاملها، وأن التعميم لا يجوز عند محاسبته هو أو محاسبة غيره تاريخياً على ما كان منهم على طول المسيرة!
والوقوع في خطأ التعميم خطأ كبير لا شك، لأنه يساوي بين الصواب وعدم الصواب، ولكن المشكلة أنّ رفع اسم ويلسون بالطريقة التي تم بها، وفي الأجواء الغاضبة التي جرى خلالها، سوف يحطم الهالة التي أحاطت به على امتداد قرن، رئيساً خلال الحرب الأولى، وأباً مؤسساً للعصبة في زمانها، وواضعاً للمبادئ الأربعة عشر الشهيرة التي حملت اسمه ولا تزال. لقد وضعها داعياً فيها إلى حق الشعوب في الاستقلال، وفي تحديد المصير، وفي الاحتفاظ بسيادتها على أرضها، وفي أن يكون كل شعب صاحب كلمة فيما يخص مستقبله بين الشعوب!
وقتها وكان ذلك في عام 1919، كان مؤتمر الصلح فيما بعد الحرب الكبرى قد انعقد في باريس، وكان ويلسون قد جاء حاضراً فيه، وكانت مبادئه التي شغلت العالم قد صدرت في السنة السابقة، وكانت الشعوب التي تعاني شقاء الاحتلال قد راحت تتطلع إليه والأمل يملؤها، وكان سعد باشا زغلول، قائد الثورة المصرية التي ألهمت شعوباً حولها، قد قرر السفر إلى العاصمة الفرنسية لعرض قضية الاستقلال على المؤتمر!
كان قد سافر يطلب من صاحب المبادئ الأربعة عشر أن ينظر بعين العطف إلى رغبات الأمة المصرية في السيادة وفي الاستقلال، ولم يكن يطلب مستحيلاً من الرئيس ويلسون، وإنما كان يدعوه إلى أن يترجم المبادئ التي أصدرها إلى واقع حي في حياة المصريين بوصفهم شعباً من الشعوب المعنية بمبادئ الرجل.
كان سعد باشا قد ذهب يلفت انتباه الرئيس الأميركي إلى أن القضية ليست في صدور مبادئ عنه، ولكنها في أن تصادف المبادئ قدرة على نقلها من حروف جافة فوق الورق، إلى حياه من لحم ومن دم في حياة الملايين من الناس!
ولم يكن صاحب المبادئ الأميركية عابر سبيل، ولكنه كان على رأس الولايات المتحدة، التي كانت قوة صاعدة في طريقها إلى القمة العالمية. وكان بالتالي رجلاً قادراً على أن يتبنى مبادئه، وعلى أن يأخذها من سطورها المكتوبة إلى حيث تجد حيويتها في حياة الشعوب!
ولكنه رغم كل هذا لم يفعل، ولم يكن عند حُسن ظن سعد زغلول زعيم «الوفد»، ولا عند حُسن ظن المصريين الذين ترقبوا عودة الزعيم من باريس، وبين يديه مبادئ ويلسون تؤيد مطالبهم وتقف إلى جوارها. كانت المفاجأة أن ويلسون أيّد الحماية البريطانية على مصر، وخان مبادئه التي بدت مجرد دغدغة لمشاعر الشعوب المتعطشة إلى حياه حرة على أرضها!
وحين جرى رفع اسمه في الجامعتين، وجد المصريون سبباً مضافاً يخصهم في الارتياح الذي صاحب إزالة الاسم، ومن المؤكد أن شعوباً أخرى حول الأرض سوف تجد أسبابها الخاصة، التي تشارك بها الأميركيين ارتياحهم الناتج عن قرار «برينستون» و«مونماوث» معاً!
السطو على حقوق الشعوب جريمة لا تسقط بالتقادم، وساعة الحساب على وقوع مثل هذا السطو تأتي مهما طال بها الزمان، ويحين أوانها حتى ولو غابت قرناً كاملاً من السنين!