سليمان جودة
فهمت من رد جاءنى من السيدة نعمت شفيق، نائب محافظ البنك المركزى فى بريطانيا، أنها ليست المصرية الوحيدة فى البنك، وأن هناك مصريين غيرها يعملون معها، وأن من عادة Bank Of England أن يبحث عن الكفاءة فى أى مكان، فى مجال عمله، وأن يغريها بالمجىء إليه، إلى الدرجة التى لن يصدق معها كثيرون منا أن محافظ البنك نفسه، ليس إنجليزياً، ولكنه رجل ذو كفاءة كندى!
وكنت بالطبع أتمنى لو سمعت منها رأياً فى سياستنا النقدية الحالية، التى يمشى عليها البنك المركزى، منذ مجىء طارق عامر إلى منصبه فيه، لولا أنها لا تستطيع - بحكم موقعها - أن تتكلم فى السياسات المتبعة فى البلاد الأخرى، فمنصبها يفرض عليها ذلك، ويفرض على غيرها بالطبع، ممن يعملون معها.
وهناك بطبيعة الحال مصريون كثيرون فازوا بمواقع مهمة، فى مؤسسات دولية كبرى، ليس أولهم الدكتور إسماعيل سراج الدين، صاحب الموقع المهم فى البنك الدولى سابقاً، ولا الدكتور إبراهيم شحاتة، يرحمه الله، ولا الدكتور محمود محيى الدين، النائب الأول لرئيس البنك حالياً، ولا الدكتور حازم الببلاوى، مدير صندوق النقد الدولى، ولن تكون رانيا المشاط آخرهم، وهى ذاهبة هذه الأيام لتتولى موقعاً آخر فى الصندوق، والمؤكد أنه لا البنك الدولى ولا الصندوق اختارا هذه الأسماء لأن أصحابها مصريون، وإنما لأنهم أصحاب كفاءة فى ميادين عمل المؤسستين.
ولكن الفارق الذى لابد أن ننتبه إليه، بين حالة نعمت شفيق ومن معها، من غير الإنجليز، وبين حالة الذين يعملون فى البنك الدولى والصندوق، أنهم فى الحالة الأولى جرى اختيارهم للعمل فى بنك إنجليزى، لا بنك دولى، وأن تفضيلهم على الإنجليز أنفسهم كان لمهارة عندهم، فى مجال عملهم، لا لشىء آخر أبداً!
وربما سوف يدهشنا أن نعرف أن فى البنك المركزى الإنجليزى موقعاً اسمه Head Hunter، وأن الذى يتولى هذا الموقع يكون له مهمة واحدة هى البحث عن صاحب أى عقل متميز فى العمل البنكى، فى أى مكان بالعالم، من أجل أن يضمه إلى فريق عمل البنك، وهو موقع لا ينفرد به البنك المركزى الإنجليزى وحده طبعاً، لأن الشركات والبنوك الكبرى فى العالم تعرفه، وتعمل به، ومن مسماه بالإنجليزية تفهم أن الشخص الجالس فيه تكون مهمته اصطياد العقول بامتداد العالم، فى سبيل تعظيم قيمة الكيان الذى ينتمى إليه.
الوضع عندنا فى مصر على النقيض تماماً من هذا كله، وإذا أردت دليلاً فى الميدان نفسه الذى نتحدث فيه، فاسأل عن واحد من محافظى البنك المركزى المصرى السابقين، الذى لما تولى منصبه ضاقت القاهرة به وبقيادة بنكية ماهرة، فلم تجد مفراً من الخروج من البلد، طوال فترة وجود المحافظ فى البنك، وكان لسان حال المحافظ: يا أنا.. يا هو فى البلد!!.. فخرج الرجل منها! كما خرج غيره كثيرون، للسبب ذاته، وبقيت مصر تعانى شحاً فى وجود أصحاب المواهب والإمكانات فى مواقع المسؤولية كما ترى، لينحدر الأداء العام، يوماً بعد يوم، فيستيقظ المصريون، فى كل صباح، على أزمة جديدة، فى أى اتجاه، ولا يكادون يفيقون منها حتى تعاجلهم واحدة من نوع مختلف!
لقد نكأت نعمت شفيق جراحنا دون أن تقصد!