كنت أتصور إلى أيام قليلة مضت، أن الذهاب إلى انتخابات العاشر من ديسمبر (كانون الأول) المقبل في ليبيا، سوف يضع البلاد على بداية الطريق إلى مستقبل تستحقه، ولكنّ نظرةً متمهلة للأوضاع الراهنة هناك، تقول إن الانتخابات إذا كانت حلاً، وهي كذلك بالفعل، فإنها خطوة لاحقة، تسبقها خطوات بالضرورة.. لا خطوة أولى كما قد يتصور الذين يريدون التعجيل بها ويدعون إليها هذه الأيام!
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد دعا صيف هذا العام، إلى مؤتمر في باريس حضره أطراف العملية السياسية الليبية، وجرى التوافق في ختامه على إجراء انتخابات العاشر من ديسمبر، ومنذ انفضّ المؤتمر كان ماكرون ولا يزال، يدعو إلى إجراء الانتخابات في موعدها الذي حدده المؤتمرون... وكلما تحدث الرئيس الفرنسي في مناسبة بعدها، جدد الدعوة إلى انعقاد الانتخابات في موعدها، وتمسك بدعوته، وتشبّث بها، كأنه يراها طوق نجاة... ولا نجاة من دونها!
وهي بطبيعة الحال طوق نجاة، شأنها شأن أي انتخابات جادة تجري في أي بلد... غير أن الانتخابات ليست هدفاً في حد ذاتها، ولكنها تظل طريقاً إلى أن ينعم البلد الذي تجري فيه، بدرجة من الأمن، ومن الاستقرار، ومن السلام الداخلي، تقود بدورها إلى تحقيق معدل من النمو، يعرف كيف يوظف كل مورد من موارد الدولة، لصالح كل مواطن بغير تمييز على أي مستوى!
وحين قرأت تصريحاً هذا الأسبوع، لرئيس الشركة المسؤولة عن تصدير النفط في ليبيا، يقول فيه إن عائد التصدير خلال بضعة أشهر مضت، بلغ 13 مليار دولار ثم تجاوزها بعدة ملايين، تساءلت بيني وبين نفسي، عما كانت ليبيا ستكون عليه، لو كانت تمر بظروف طبيعية، ثم جرى إنفاق هذا المبلغ على الخدمات العامة فيها، وبالذات على تعليم كل طفل ليبي تعليماً جيداً، وتقديم خدمة علاجية جيدة لكل مواطن ليبي؟! تساءلت في ما يشبه اليأس، وأنا أعرف أن السؤال بصيغة لو، لا يفيد شيئاً!
كانت ليبيا ستكون بلداً آخر غير البلد الذي نتابع أنباءه في كل صباح، بكثير من الحزن، وكثير من الوجل، وكثير من الخوف عليه! فإذا دام إنفاق بهذا القدر، لعدة سنين، خرجت ليبيا من محنتها بالتأكيد، وعاشت حياة تليق ببلد حباه الله موارد بلا حصر، وأنعم عليه في ما أنعم، بشاطئ يمتد على البحر المتوسط لمسافة 2000 كيلومتر، تكفي وحدها لوضع هذا البلد على خريطة العالم المتطور... غير أن شواطئ بهذا الامتداد لن تفعل فعلها وحدها، ولن توظّف نفسها، ولا هي سوف تتكلم لتقول: إن في داخلي من الثروات كذا، وكذا، ولكنها في حاجة إلى يد تفعل، وفي حاجة من وراء اليد إلى عقل يشير!
والعقل لا يمكن أن يكون حاضراً في بلد تطارد ميليشياته بعضها البعض، بسلاح يتدفق عليها من حيث لا ندري، في وقت يجاهد فيه الجيش الوطني الليبي، للحصول على سلاح حديث، يتمكن به من فرض الأمن داخل الدولة، وعلى حدودها، فيخذله مجتمع دولي يحظر السلاح على الجيش الوطني الليبي، ويغمض عينيه في الوقت ذاته عن سلاح يصل إلى الميليشيات، دون رقيب، ودون ضابط، ودون سؤال عن مصدره، ولا عمن أرسله، ولا عن الهدف من إرساله في النهاية!
ثم نقرأ لأنطونيو تاياني، رئيس البرلمان الأوروبي، أن ليبيا برميل بارود جاهز للانفجار، وأن مستقبلها يتحدد الآن، وأن على الاتحاد الأوروبي أن يلعب دوراً مركزياً في إدارة الأزمة فيها، وأن الاتحاد إذا لم يتمكن من أداء هذه المهمة، فسوف يترك الباب على الأراضي الليبية مفتوحاً أمام طموحات بعض الدول ومصالحها!
يقول تاياني هذا الكلام، دون أن يصادف أحداً ينبهه، إلى أن الأزمة في ليبيا ليست بحاجة إلى إدارة بقدر ما هي بحاجة إلى حل، وأن منطق إدارة الأزمات في العالم، بديلاً عن حلها، قد أبقى القضية الفلسطينية سبعين عاماً من عام 1948 إلى عام 2018، دون حل من أي نوع، وأن الأجدر بأوروبا أن تتخلى عن هذا المنطق الذي يؤمن به هنري كيسنجر، الثعلب الأميركي المراوغ، ويقدمه نصيحة جاهزة لكل إدارة أميركية جديدة تأتي، منذ إدارة ريتشارد نيكسون التي كان هو عضواً فيها! فهو منطق لم ينتج عنه شيء، سوى المزيد من تخريب العالم، وتوزيع التعاسة على أرجاء الأرض، ونشر البؤس في أركان الدنيا الأربعة!
ومن بعد تاياني تجيء فيدريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد، لتعزف النغمة ذاتها فتقول في اتصال مع فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية، إنها تدعم حكومته، وتدعم خطة غسان سلامة، المبعوث الأممي في ليبيا، وتضيف أن الملف الليبي سيكون على طاولة وزراء خارجية الاتحاد، الذين سيجتمعون على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك هذا الشهر!
ومن قبلهما كان سلامة قد قال في حديث له مع أعضاء مجلس الأمن، عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، إنه يخشى أن تتحول ليبيا مع مرور الوقت، إلى ملاذ آمن لجماعات الإرهاب، التي تتوافد عليها من شتى الجهات، وإنه يرسل صيحات الخطر لعل العالم ينتبه، وإن الأولوية في العاصمة طرابلس يجب أن تكون لبناء مؤسسات مدنية وعسكرية، قوية وموحدة، تعمل من أجل الليبيين كافة، وتعيد الاستقرار إلى أرض الوطن!
والثلاثة (تاياني وموغيريني وسلامة) يدورون حول أصل القضية، ولا يفكرون في اقتحامها الذي لن يكون إلا بفك حظر وصول السلاح إلى الجيش الوطني الليبي... فالدول لا تعرف مؤسسات عسكرية قوية وموحدة، سوى الجيوش الوطنية، التي لن تكون قوية ولا موحدة، بغير سلاح حديث، ومتطور، ومتقدم، تستطيع به في حالة ليبيا، إعادة الاستقرار وإنقاذ البلد مما ينحدر إليه!
الحل يبدأ من إتاحة الطريق إلى تأسيس جيش ليبي قوي، وموحّد، يتلقى السلاح الذي يسعفه في أداء مهمته على أرض بلده... ولا بداية أخرى!
نقلًا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع