بقلم:سليمان جودة
مما يدعو إلى التفاؤل وسط أنباء كثيرة في المنطقة لا تبعث على السرور، أن تقرر هيئة الصحافيين السعوديين إطلاق منتدى الإعلام السعودي الأول في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وأن يكون شعاره «صناعة الإعلام... الفرص والتحديات»، وأن يرصد جائزة يجري منحها على هامش أعماله في كل عام، فالمنتدى يفتح نافذة للحوار نحن أحوج ما نكون إليها في كل باب!
ومما قاله الأستاذ خالد المالك، رئيس مجلس إدارة الهيئة، منذ اللحظة الأولى للإعلان عن المنتدى في أغسطس (آب) الماضي، إن مشروع المنتدى والجائزة يصادفان دعماً مباشراً من تركي الشبانة، وزير الإعلام السعودي، وإن الوزير اجتمع أكثر من مرة مع أعضاء المجلس، وحث الهيئة على تبني المبادرات المختلفة، ليبقى المنتدى مناسبة سنوية حيوية وكبيرة!
أما الأستاذ محمد فهد الحارثي، عضو مجلس إدارة الهيئة، والمشرف العام على المنتدى والجائزة، فقال منذ البداية، ولا يزال يقول، إن التحديات الأساسية التي تواجه المؤسسات الإعلامية، ستكون مُدرجة على جدول الأعمال، وإن عرضاً للتجارب العالمية التي واجهت هذه التحديات، سيكون على شاشة المنتدى أمام الحاضرين، وإن ذلك سوف يصب في صالح صناعة الإعلام بالضرورة!
وتتوالى أخبار المنتدى لتحمل تفاصيل كثيرة يوماً تلو آخر، وكلها تشرح هذا الحدث الإعلامي المهم وتبين أبعاده، وتشير إلى أن إعلام التواصل الاجتماعي الذي ملأ الدنيا هذه الأيام وشغل الناس، سيكون له نصيب في جدول أعمال المنتدى الوليد!
والمؤكد أن الأستاذين المالك والحارثي، يذكران تماماً أننا استيقظنا قبل أسابيع على خبر غير سار، يقول إن شركة توزيع الصحف في المملكة العربية السعودية، قد نصحت بعدم طرح الصحف المحلية الورقية لدى الباعة في عدد من مدن المملكة؛ لأن طرحها أصبح عملية غير اقتصادية. وقد عادت الشركة بعدها بأيام، ومنحت الصحف المقصودة فرصة تصل إلى ستة أشهر، لعلها خلالها تنجح في إصلاح الخلل الذي أدى إلى أن تكون الصحيفة الورقية، التي كانت إلى يوم قريب كالرغيف الطازج على كل مائدة، صناعة مرهقة للمؤسسة التي تصدرها، وللشركة التي توزعها على حد سواء!
ماذا بالضبط يحدث للإعلام التقليدي في بلادنا العربية جميعها، وليس في السعودية وحدها؟ ومنذ متى على وجه التحديد حدث ما يحدث؟ وكيف يمكن مواجهة ما يحدث على مستوى هذا النوع من الإعلام؟! هذه أسئلة ثلاثة أتصور أنها ستكون حاضرة مع غيرها على رأس جدول أعمال المنتدى، لا ليناقشها وفقط، ولكن ليخرج من مناقشاته لها وقد أمسك إجابات محددة عنها في يديه. فالقضية في ميدان الإعلام العربي لم تعد في تشخيص المرض؛ لأننا كلنا نعرفه ونرى أعراضه بادية أمام كل عين، ولكن القضية هي في وضع الحل الذي يكون عملياً، وممكناً، وقادراً على مد يد الإنقاذ!
إن الإعلام الحديث موجود عند غيرنا، بمثل ما هو موجود عندنا، وهو ينتشر ويؤثر هناك كما ينتشر ويؤثر هنا، ولكنه هناك لا يحاصر الإعلام التقليدي كما يحاصره هنا، وكلما قطع خطوة إلى الأمام في اتجاه الانتشار أو التأثير، أثبت الإعلام التقليدي في المقابل أنه قادر على قطع خطوة موازية، أو أنه قادر على أن يبقى في مربع القوة والتأثير فلا يغادره!
وربما تكون صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أبرز مثال في هذا الملف. فتغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي لا تتوقف، وأعداد متابعيه على «تويتر» التي تقدر بعشرات الملايين، والصخب الذي يرافق التغريدات باستمرار، كل ذلك لم يستطع أن يسحب من الصحيفة الشهيرة قدرتها على الوجود والتأثير، ورقياً لا إلكترونياً، ولا استطاعت تغريدات سيد البيت الأبيض، أن تكون ذات أثر يُذكر على أرقام توزيعها، التي لا تزال تلامس سقف الستة ملايين نسخة في كل نهار، وتكاد تنطق بأنها تواصل طريقها إلى الارتفاع!
ولا نزال نذكر أن الرئيس ترمب قد زارها في مقرها العتيد، بعد فوزه في السباق الرئاسي قبل ثلاث سنوات تقريباً، رغم تهكمه عليها طوال شهور دعايته الانتخابية، ورغم هجومها الذي لم يتوقف لحظة عليه، ورغم تشكيكه الدائم في مصداقيتها!
والأرقام المعلنة تقول إن الارتفاع في أعداد الذين يدخلون على موقعها الإلكتروني، ويفضلون نسختها الإلكترونية، لم يؤثر على أرقام توزيعها الورقي، وإن الوجود الإلكتروني لها يوازيه وجود ورقي قوي، ونافذ.
ولم تبتعد صحيفة «واشنطن بوست» عن هذه الدائرة، ولا كذلك صحف كبرى أخرى في بلاد بعيدة عن الولايات المتحدة، وبالذات في الهند وفي اليابان!
والمعنى أن شيوع الإعلام الحديث ليس معناه تشييع الإعلام التقليدي إلى مثواه الأخير؛ خصوصاً أن أخطاء الأول - وربما خطاياه - هي بلا حصر، وهي تدعونا إلى أن نتمسك بالثاني، ونمنحه الفرصة ليس لأن يكون موجوداً وفقط، ولكن ليبقى واصلاً ومؤثراً، وأن نحرص على ذلك لسببين اثنين؛ أولهما أنه إعلام لا يزال يعرف حدود الإحساس بالمسؤولية في الممارسة المهنية ويراعيها، والثاني أنه يعرف أن للمجتمع تقاليد باقية لا سبيل إلى القفز فوقها، أو تجاهلها، أو غض البصر عنها!
وقبل أيام، كان الرئيس ترمب قد أوقف اشتراكه في الصحيفتين، وقالت ستيفاني غريشام، المتحدثة باسم البيت الأبيض، في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية، إن وقف الاشتراك فيهما سوف يوفر إنفاق مكتب الرئيس من فلوس دافع الضرائب، وإن الإدارة تنوي دعوة الهيئات الحكومية إلى وقف اشتراكها هي أيضاً!
ولم تلتفت المتحدثة غريشام، ولا التفت الرئيس قبلها، إلى أن وقف الاشتراك في أكبر صحيفتين في البلاد لا يعني نفي وجودهما، ولا يعني الحد من تأثيرهما، ولا يعني صرف القراء عنهما، ولا يعني النزول بتوزيعهما؛ بل إن العكس قد يكون هو الصحيح؛ لأن إجراء كهذا من جانب الرئيس تجاه الصحيفتين، يمكن أن يمثل دعاية مجانية واسعة لهما، فالطبيعي أن مواطنين أميركيين كثيرين سوف يجدون أنفسهم مدفوعين بحكم طبائع البشر، إلى التعرف على محتوى صحيفتين تتحديان الرئيس، وتزدادان تحدياً له في كل مناسبة!
ولو انتبه الرئيس لكان قد التفت إلى أن إحداهما، وهي «واشنطن بوست»، كانت قد أزاحت رئيساً أميركياً من منصبه، هو ريتشارد نيكسون، وجاءت برئيس آخر في مكانه هو جيرالد فورد، وكانت القصة هي فضيحة «ووترغيت» التي هزت العالم في وقتها!
صناعة الإعلام في هذا العصر هي تشكيل الوعي، أو تزييفه، ولا وسط بينهما، وهذه هي القضية الأكبر التي ربما يجد منتدى السعودية الأول أنه مدعو إلى أن يضيف فيها!