توقيت القاهرة المحلي 14:12:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حال العالم بين صلعة ولحية

  مصر اليوم -

حال العالم بين صلعة ولحية

بقلم: سليمان جودة

حدث في 11 فبراير (شباط) من السنة الماضية، أن استقبل مستشفى سمالوط العام في محافظة المنيا جنوب القاهرة مولودة جديدة، وكان اسم المولودة ياسمين رمضان محفوظ.
وقد اشتهرت هذه المولودة وقتها كما لم تشتهر مولودة قبلها، وكان السبب أن سكان مصر وصلوا بولادتها إلى 100 مليون إنسان، وكان مجيئها إلى الدنيا كأنه جرس إنذار، وكان سبب الإنذار أن الحكومة ترى مواردها أقل من أن تستطيع مواجهة حاجات المائة مليون.
وفي هذه السنة تكررت حكاية ياسمين، ولكن على نطاق أوسع بكثير، هو نطاق العالم كله على امتداده، وكان ذلك عندما جاءت مولودة فلبينية إلى الدنيا اسمها فينيس.
كانت أم فينيس تحمل اسم مارجريت، ولم تكن تعرف أن العالم سيكون على موعد مع ابنتها، بالضبط كما كان المصريون على موعد مع ياسمين، فلقد اكتمل سكان العالم بوصول فينيس 8 مليارات إنسان، وفي عام 2011 كان سكان العالم سبعة مليارات.
ومع وصول سكان الكوكب إلى هذا الرقم تجدد الكلام عن العدد المتزايد، وعمّا إذا كانت موارد الأرض كافية لمواجهة حاجات هذا العدد، أم أن نظرية توماس مالتوس لا تزال صحيحة؟!
كان مالتوس من أساتذة الاقتصاد الإنجليز، وكان تقديره أن معدل زيادة السكان أسرع بكثير من معدل الزيادة في الغذاء عالمياً، وكان يقول إن المعدل الأول اسمه المتوالية الهندسية، وإن الثاني متوالية عددية، وإن سرعة الأول أضعاف أضعاف الثاني، وإن هذا يؤدي في النهاية إلى أن يواجه العالم مشكلة في توفير غذاء الكثيرين من سكانه، وإن الطبيعة هي التي تتدخل لحل هذا الإشكال.
والمشكلة أنَّ تدخُّل الطبيعة الذي رآه يأتي عنيفاً في العادة، لأنه يتم من خلال الأمراض والحروب والأوبئة، التي تضرب العالم كلما زاد عدد سكانه بوتيرة أسرع مما تزيد بها موارده في الغذاء بالذات. ولم تكن نظرية مالتوس قرآناً مقدساً، ومع ذلك آمن بها كثيرون بقوة، ولا يزال هؤلاء الكثيرون يرددون نظريته ويعودون إليها، كلما كان العالم على موعد مع تعداد سكاني جديد.
وفي أيام فيروس «كورونا»، خصوصاً في عز ذروته، كانت هذه النظرية الإنجليزية حاضرة بقوة، وكان الذين يعتقدون في صحة نظرية مالتوس يلوذون بها في تفسير ما كان يحدث، وكان الوباء كلما دخل مرحلة جديدة من مراحل تطوره، انتعش الحديث عن النظرية، وعن أن صاحبها كان على حق، وعن أن ما يتواتر من أنباء عن تصنيع الفيروس في مختبر إنما يدل على أن مالتوس كان بعيد النظر.
وكان اختفاء «كورونا» فجأة، بمثل ما ظهر فجأة، مما يقوي حديث نظرية المتواليتين ويدعمها، وكان هذا الحديث يجد الكثيرين الذين يصدقونه، ولا يزال.
كان رأي الأستاذ الإنجليزي الشهير هو رأي العلم بشكل أو بآخر، وإذا شئنا الدقة قلنا إنه كان رأي علم الاقتصاد على وجه الخصوص، لأن صاحب النظرية هو واحد من أبناء هذا العلم في التقييم الأخير، ولكنَّ هذا لا يعني أنه الرأي الذي يحتكر الحقيقة.
ولا يزال رأيه اجتهاداً يقدّسه بعض الناس ويلعنه البعض الآخر ويراه افتئاتاً على ما تقول به الكتب المقدسة، التي ترى مجيء كل إنسان إلى هذا العالم مقترناً بمجيء رزقه معه، وبالتالي فلا مجال للكلام عن متوالية هندسية تميّز السكان، ولا عن متوالية عددية يختص بها الغذاء.
وإذا كان مالتوس قد عاش ومات في القرن التاسع عشر، فإن العالم كان على موعد في القرن العشرين مع إنجليزي آخر كان رأيه على النقيض من الرأي الذي أسست له النظرية الشهيرة.
وكان هذا الإنجليزي الآخر هو الآيرلندي الشهير برنارد شو، الذي اشتهر بسخريته، كما اشتهر بأدبه المسرحي الذي كانت السخرية إحدى صفاته، وكانت هي طابعه الذي يميزه عن كل مسرح آخر، وكانت سخريته أداة من أدوات التعبير عمّا يرى من أمور عالمنا الذي عاشه ونعيشه.
كان برنارد شو يسخر من نفسه في بعض الأحيان، وكانت سخريته من نفسه سلاحاً آخر من أسلحته الأدبية في مواجهة مشكلات كان يراها من صنع العالم، وبالتحديد من صنع غير العادلين بين قادته، وليس من صنع متواليات هندسية أو عددية تبدو صعبة ومعقدة.
كان شو يتطلع طول الوقت إلى أحوال العالم من حوله، ولكن الزاوية التي كان يتطلع منها تختلف عن الزاوية التي كان مالتوس ينظر منها، وبمعنى آخر كان الأول يتطلع بقلبه، وكان الثاني ينظر برأسه، مع ما بين القلب والعقل من اختلاف في زوايا النظر.
وكان شو يخلط ما يراه بسخرية لاذعة وذكية لم تكن تفارقه، وكان هذا مما يمنح ما يقوله في هذه القضية وفي غيرها مذاقاً خاصاً لن تجده طبعاً عند مالتوس، وبكل ما يميز علم الاقتصاد من جفاف في الشكل، ومن جمود في المضمون، ومن صعوبة في الهضم، ومن افتقار إلى الروح التي بغيرها يفقد الشيء حيويته لدى الشخص الذي يتلقاه.
كان الأديب الساخر لا يشغله أن سكان العالم أكثر من موارد الأرض، ولكن كان يشغله أن الموارد ليست فقط موجودة، ولكنها كافية أيضاً، ولكن المشكلة كانت على الدوام في القدرة على توزيعها، وقبل القدرة على توزيعها، الرغبة في ذلك بصدق مع النفس وأمانة مع الغير.
ولم يجد طريقة يعبّر بها عن هذا المعنى سوى أن يتحسس صلعته التي اشتهر بها، ومعها لحيته التي كانت تتدلى على صدره وتغطيه، ثم يقول في ألم وسخرية: إن حال العالم كحال صلعتي ولحيتي... غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع!
هكذا عبّر الرجل عن معضلة العالم، وهكذا فعل في كلمات لا تكاد تتجاوز أصابع اليدين، وهكذا جمع المعنى من أطرافه وركزه في أقل الكلمات.
ولأنه كان يرى القضية بقلبه، فإنه كان يتعاطف مع الإنسان فيها، وكان تعاطفه مع الإنسان الأضعف لا الأقوى، وكان يرى الحل في عدالة التوزيع التي تواجه الإشكال، وكان يقصد العدالة التي لا ترى في الذين لا يجدون غذاءهم عبئاً على العالم يجب التخلص منه بأي طريقة، والتي لا تراهم حمولة زائدة يجب إلقاؤها من الطائرة حتى تواصل الرحلة إلى محطة الوصول.
ولكن نظرة مالتوس الجامدة لم يكن يستوقفها هذا كله، وكانت القضية تشغله على الورق أمامه، لا على الأرض أو في الواقع من حوله، وكان يحسبها بمتوالياته ويجمع ويطرح، ثم ينتهي إلى أن الطبيعة سوف تتدخل بحروبها، وأوبئتها، وأمراضها، وأنه لا حل آخر.
ولكن عدالة التوزيع التي عاش شو يحلم بها، لم تكن بالسهولة التي كان يتصورها بها، ولا هي بالسهولة التي قد نتخيلها في حياتنا، فكل القمم التي انعقدت بين دول الشمال والجنوب، أو بين الدول الغنية والفقيرة، كانت ترفع شعار شو، ولكنّ الشعار سرعان ما كان ينتكس بعد كل قمة، وسرعان ما كان العالم يعود للحديث عن صيغة بعد صيغة من صيغ العون والمساعدة.
وربما كان تولستوي هو الوحيد الذي استطاع أن يحوّل ما كان يتمناه شو من حلم إلى علم، فكان يأخذ من إقطاعياته ويوزّع على فقراء الناس.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حال العالم بين صلعة ولحية حال العالم بين صلعة ولحية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 17:41 2024 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة
  مصر اليوم - أسلوب نقش الفهد الجريء يعود بقوة لعالم الموضة

GMT 14:12 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

هجوم صاروخي من اليمن يستهدف وسط إسرائيل
  مصر اليوم - هجوم صاروخي من اليمن يستهدف وسط إسرائيل

GMT 08:15 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

السجائر الإلكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير مكتشفة
  مصر اليوم - السجائر الإلكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير مكتشفة

GMT 11:06 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

يسرا تتفرغ للسينما بعد خروجها من دراما رمضان
  مصر اليوم - يسرا تتفرغ للسينما بعد خروجها من دراما رمضان

GMT 04:49 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

"الأرصاد المصرية " تعلن عن درجات الحرارة المتوقعة الأربعاء

GMT 03:57 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

توماس توخيل يتوج بـ11 لقبًا قبل بداية مشواره مع منتخب إنجلترا

GMT 12:10 2021 الأحد ,24 كانون الثاني / يناير

صدام جديد بين مانشستر يونايتد وليفربول في كأس الاتحاد

GMT 12:38 2021 الأربعاء ,20 كانون الثاني / يناير

تفاصيل القبض على والد طفلة التعرية في الدقهلية

GMT 07:05 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

تعرف على أبرز 5 أسباب للشعور بالتعب طوال الوقت

GMT 18:17 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

بسنت شوقي تكشف تفاصيل زواجها من محمد فراج

GMT 06:26 2020 السبت ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

صبحي يطمئن على الأولمبي والفريق يختتم معسكره

GMT 09:26 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

الحكومة المصرية تُقدم تسهيلات وخدمات لكبار السن

GMT 06:08 2020 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

دراسة تؤكد أن نصف البالغين لا يغسلون أسنانهم مساء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon