بقلم - سليمان جودة
قليلون من الساسة طالت أعمارهم مثل الملكة إليزابيث الثانية، فبلغوا المائة سنة، أو عاشوا حتى صاروا على مرمى حجر منها!.
فالرئيس التونسى الحبيب بورقيبة عاش ١٠٠ سنة كاملة، والغريب أنه جاء الدنيا فى عام ١٩٠٠، ثم غادرها فى عام ٢٠٠٠، فكأنه افتتح القرن العشرين، ثم أغلقه من ورائه بيده، راغبًا فى أن يستريح فلا يزعجه شىء. والأغرب أنه عند خروجه من المستشفى العسكرى، قبل وفاته بأسبوع، خاطب حفيدته بالتبنى، وقال: لا تحزنى.. لن أغادرك.. أتوقع أن أعيش ستة أعوام أخرى. ولكن ما حدث أن الله أمهله ستة أيام!.. وعندما كتب الصافى سعيد كتابه «سيرة شبه محرمة» قال عنه فيها إنه عاش القرن العشرين بامتياز وامتلاء.. وقال: وكأنه ضرب معه موعدًا ليكون آخر مَن يرفع له منديل الوداع!.
والزعيم اللبنانى صائب سلام مات فى عام ٢٠٠٠ أيضًا لولا أنه رحل فى الخامسة والتسعين.. لقد غادر وفى نفسه شىء من قرن كامل تمنى لو أكمله إلى آخره!.
وهؤلاء الساسة عاشوا كل هذا العمر ليس فى الغالب لأنهم مُحِبّون للسياسة التى مارسوها حتى اللحظة الأخيرة، ولكن لأنهم كانوا مُحِبّين للحياة فى الأساس!.. ولأنهم عاشوا كذلك، فإنهم تحولوا مع الوقت من ساسة كبار قضوا حياتهم يتحركون بين الناس إلى تاريخ يمتلئ بالعظات!.
ولم تعبر صحيفة عن هذا المعنى بقدر ما عبرت عنه صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، فى عددها الصادر صباح الجمعة الماضى، وهى تنعى إلى القراء رحيل الملكة إليزابيث، التى عانقت ما يقرب من القرن من الزمان. وكيف لا تعانقه وقد وقفت قبل رحيلها بساعات معدودة تستقبل ليز تراس، رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، ولسان حالها يقول إنها تتمنى لو أكملت القرن لتقف إلى جوار «بورقيبة» رأسًا برأس؟!.
صدرت «الشرق الأوسط» بمانشيت من أربع كلمات على عرض الصفحة الأولى يقول: الملكة تغادر إلى التاريخ!.. ومع المانشيت صورة بعرض الصفحة نفسها، بدَت فيها الملكة من ظهرها وهى تغادر الشرفة فى قصر باكنجهام السنة الماضية، وعلى يسار الصورة وقف الأمير تشارلز الذى أصبح ملكًا، وإلى جانبه زوجته كاميلا.. ثم على اليمين وقف الأمير وليام، الذى صار وليًّا للعهد، وإلى جواره زوجته كيت.. فكأن الأربعة وقفوا شهودًا أحياء على الملكة فى لحظة المغادرة!.
ولو أنت رفعتَ صورة الملكة، ثم وضعتَ صورة الحبيب بورقيبة فى وقت رحيله، أو صورة صائب سلام وقت مغادرته، لما اختلف الحال ولا تغير المانشيت، الذى يحمل رائحة قلم غسان شربل، رئيس التحرير!، فالصورة تشرح المانشيت، والمانشيت ينقل الصورة!.