بقلم: سليمان جودة
أفكر منذ فترة في الكتابة عن موقع النموذج الصيني في مقابل النموذج الأميركي، وأتساءل بيني وبين نفسي كثيراً عما إذا كان الأول يصلح للجلوس في مكان الثاني في العالم؟!
وكان من الطبيعي أن يزداد التساؤل إلحاحاً في زمن فيروس «كورونا»، لأن الصراع كان قائماً بين النموذجين في مرحلة ما قبل «كورونا»، ولكنه كان يجري في الخفاء مرة، وفي العلن مرة أخرى على استحياء، فلما جاء زمن الوباء وراح يتمدد بيننا على مدى بضعة أشهر مضت، خرج الصراع بجميع تفاصيله على مرأى من الرأي العام في أنحاء العالم، وبدا أننا على موعد مع جولة مختلفة من السباق بين الطرفين!
وقد بادر الدكتور مأمون فندي فتعرض للقضية في مقالته المنشورة في هذه الجريدة صباح الاثنين، وكان تقديره الذي انتهى إليه أن المواجهة بين النموذجين تتشكل في إطار حرب باردة، وأنها يمكن أن تحدد ملامح عصرنا الحديث ولفترة طويلة مقبلة!
ومن المفهوم أن النموذج الأميركي عنوان لنموذج أعم وأشمل هو النموذج الغربي الذي نعرفه، وأن السؤال يظل عن أيهما تكون له الغلبة في آخر المطاف. أيهما يمكن أن يسود ثم يغلب: الصيني الشرقي الآسيوي، أم الغربي الأميركي؟!
وكان تقدير الدكتور مأمون أن شرعية النموذج الصيني التي يتنفس منها ويحيا هي «شرعية الإنجاز» وأن «الشرعية الديمقراطية» هي التي يستند إليها النموذج الآخر ويعيش، وعلى أساسها يمارس مهمة القيادة في العالم، ومنها يستمد طاقته على القيادة، ويحصل على قدرته التي تؤهله للإشارة والتوجيه!
ومن المفهوم أيضاً أن الفكرة في الشرعية الأولى، هي القدرة على شراء رضا مواطنيه بما تقدمه لهم الحكومة من فعل نافع في حياتهم العامة، وأن رضا الناس في الحالة الثانية راجع إلى أنهم يمارسون الفعل الديمقراطي كل فترة محددة دستورياً، وأن الصناديق هي التي تأتي بالسلطة إلى مقاعدها، ومن الصناديق وحدها تكتسب الحكومات شرعيتها.
والمعنى في ظن الدكتور مأمون أن شرعية الإنجاز يمكن أن تؤسس في حالة مثل حالة الصين، ليس فقط للبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة، ولكن للفوز في سباق مع نموذج آخر يكتسب شرعيته من الوجود المؤقت في الحكم الذي تحدده دساتير وتحكمه قوانين!
وأجد أني على خلاف مع هذا الظن لأسباب كثيرة في الحالة الصينية بالذات، ولكن السبب الأهم أن مثل هذه الشرعية فيها يمكن أن تصلح أساساً لبقاء على المدى القصير، وربما على المدى المتوسط، ولكنها لا تصلح للتأسيس لبقاء على المدى الطويل، فضلاً بالطبع عن أن تؤسس لفوز في سباق مع نموذج أميركي غربي، كانت شرعيته الديمقراطية ولا تزال هي مصدر الإلهام منه إلى مناطق متفرقة في العالم.
أذكر حين قرر الرئيس الصيني شي جينبينغ تعديل دستور بلاده قبل سنوات، أني كتبت مقالاً في صحيفة «المصري اليوم» كان عنوانه: السادات يظهر في الصين!
وكان وراء العنوان قصة، فالسادات كان قد عدل دستور البلاد، وجعل المادة الخاصة بفترات الرئاسة فيه تنص على بقائه في السلطة بلا سقف، بدلاً من صياغة قديمة في المادة كانت تمنحه فترتين كل واحدة منهما ست سنوات!
والطريف أن ذلك التعديل الصاخب كان في حرف واحد من مضمون المادة كله، فهي كانت تنص على أن للرئيس البقاء على الكرسي مدة رئاسية طولها ست سنوات، وأن من حقه التجديد «لمدة أخرى»... فجاء التعديل ليقول إن من حقه، ومن حق القادم من بعده بالضرورة، أن يبقى بعد المدة الأولى «لمدد أخرى»... فكأن الحكاية كلها كانت في رفع التاء المربوطة من كلمة مدة، ثم وضع حرف الدال في مكانها، لتتحول المدة إلى مُدد!
وهذا بالضبط ما قام به الحزب الشيوعي في العاصمة بكين لصالح الرئيس شي جينبينغ، الذي أصبح من حقه البقاء في منصبه مدى الحياة! فهل يصلح نموذج سياسي هذه هي طبيعته، لخوض سباق مع نموذج أميركي منافس، يتأسس على مبادئ مغايرة في الحكم؟!
مقومات القيادة العالمية في الحالة الأميركية قد تكون قائمة على أسس كثيرة، وقد تكون اللغة الإنجليزية التي هي الأولى عالمياً من بين هذه الأسس، وقد تكون الثقافة الأميركية بالمعنى العام لكلمة ثقافة، من بين هذه المقومات أيضاً، ولكن نظام الحكم يبقى في مقدمة المقومات كلها!
وبطبيعة الحال فالديمقراطية الأميركية التي تضع سقفاً زمنياً حازماً للبقاء في البيت الأبيض، ليست هي الديمقراطية المثالية التي يمكن الحديث عنها بوصفها الأفضل في المطلق. إنها الأفضل قياساً على سواها من أنظمة الحكم، وهي الأفضل لأن سيد البيت الأبيض يعرف مسبقاً أنه سيغادر بعد أربع سنوات أو ثمانٍ كحد أقصى، وهذا في حد ذاته يكفي لكسر جموح النزوع السلطوي في داخله.
لا يمكن للثقافة الصينية أن تصمد أمام الثقافة الأميركية، التي تغلغلت في العالم وكسبت أنصاراً ومعجبين في كل مكان. ولا يمكن للغة الصينية أن تقف في طريق اللغة الإنجليزية من حيث شيوعها وعدد المتكلمين بها، وإذا كانت الصينية هي الثانية بين اللغات في هذه اللحظة، فالسبب راجع إلى عدد سكان الصين نفسها، لأنه من النادر جداً أن تصادف أحداً يتحدث الصينية خارج الصين! صحيح أن الدعاية الأميركية نشطت ضد الصين في زمن «كورونا»، وصحيح أن إدارة ترمب صوّرت بكين على أنها هي التي أطلقت الوباء على العالم، وصحيح أن هذه الدعايات قد خلّفت وراءها الكثير من المشاعر السلبية إزاء الحكومة الصينية، ولكنّ هذا كله لا يصلح وحده سبباً أساسياً في صمود النموذج الأميركي أمام النموذج الصيني!
السبب الأساسي الذي يصلح إنما يكمن في نظام الحكم الديمقراطي وفي قدرته على الأداء، ولولا كفاءته المتجددة ما كان قد بقي رمزاً للإلهام أمام شعوب كثيرة عاشت تتمنى لو أن على أرضها حكومة تشبه الحكومة في واشنطن، من حيث خضوعها للرقابة في الكونغرس طول الوقت، ومن حيث تسليمها بمبدأ المحاسبة التي يمارسها نواب وشيوخ منتخبون من الشعب!
النموذج الصيني الحالي في الحكم، خضع للتجربة من قبل في دول كبرى، وكان مصيره الفشل، وقد كان الاتحاد السوفياتي السابق أبرز نموذج حي في هذا الطريق، والقاعدة المستقرة تقول إنه ليس من المنطقي أن نفعل الشيء نفسه للمرة الثانية ثم نتوقع نتيجة مختلفة!