بقلم: سليمان جودة
أسوأ ما في الحرب أن يعتادها الناس، وأن ينصرفوا عنها بالتالي إلى متابعة ما يجدون أن متابعته أجدى لديهم من ملاحقة تفاصيلها، أو مطاردة أخبارها، أو الجري وراء أنبائها على أمل أن يكون فيها جديد، ثم لا يكون فيها هذا الجديد!
وليس الجديد في الحرب، أي حرب، سوى أن تحمل من الأخبار ما يشير ولو من باب خفي، إلى أن آلة القتل فيها توشك أن تتوقف عن الدوران. هذا هو النبأ السار الذي يمكن أن تجده في الحرب، أياً كان أطرافها، وإذا جاز بالطبع أن تكون في الحرب أخبار سارة من أي نوع!
ولا بد أن الحرب الروسية على أوكرانيا هي المثال الحي على ذلك، ثم إنها المثال الأقرب منذ أن نشبت في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) من هذه السنة، إلى أن دخلت شهرها الرابع مع حلول ذكراها في هذا الشهر. إننا نسميها حرباً دون أن يسميها طرفاها بهذا الاسم، فلا تزال روسيا تسميها عملية عسكرية تنفذها داخل الأراضي الأوكرانية، ولا تزال أوكرانيا من ناحيتها ترد على القوات الروسية ثم تصدّ، من دون أن تسمي ما تمارسه حرباً، ومن دون أن تذهب إلى إعلان الحرب على روسيا!
ومما يزعج في هذه الحرب أن تتطلع أنت إلى صدر صحيفتك المفضلة، فتلاحظ أن أنباء الحرب قد أخذت خطوة إلى الوراء، وأن أخباراً أخرى قد زحفت لتتقدم عليها، وأن فيروس جدري القرود يكاد يسرق الكاميرا من حرب يتخوف المتابعون لها من اتساع دائرتها، ومن أن تصل إلى ما هو أبعد من عملية عسكرية روسية، ومن مجرد حرب أوكرانية لا يسميها الأوكرانيون حرباً!
ولا تعرف ماذا وراء هذا الفيروس الجديد، ولا مَنْ بالضبط أطلقه على العالم، وهو يتنقل من دولة إلى دولة في عالمنا على استحياء؟!
كل ما نعرفه أن الجدري نفسه ظهر في زمن مضى ثم جرى القضاء عليه، وأنه كان قد ظهر أول ما ظهر في الكونغو الديمقراطية وقت أن كان اسمها زائير، وأن ذلك كان في بدء سبعينات القرن الماضي، وأن الناس كانوا قد نسوا تماماً هذا المرض وكانوا قد نسوا أيامه، كما كانوا قد نسوا أمراضاً أخرى ظهرت ثم اختفت وتوارت، ومن بينها الكوليرا على سبيل المثال. ومما تابعناه منذ أن أطل الفيروس علينا الجديد، يبدو أن نفخاً في موضوعه يجري من يوم إلى يوم، وأن ذلك يعيد تذكير الناس بما كان يحدث حولهم عند بداية ظهور فيروس «كورونا»، الذي لا يزال يقاوم محاولات القضاء عليه. إننا نستيقظ مرة على أنه ينتشر في كوريا الشمالية، بعد أن كانت قد ظنت أنها محصّنة ضده وراء أسوارها العالية، ثم نستيقظ مرة ثانية على شنغهاي الصينية وهي تقاتل في مواجهته خوفاً من أن يجتاحها كما اجتاح العالم لأكثر من سنتين!
وقد بدا «كورونا» في المحاولتين، سواء في كوريا الشمالية أو في الصين، كأنه رجل يذهب إلى الحج بينما الحجاج عائدون من الرحلة. وهذا ما يقال في العادة عن الشيء يحدث بعد أوانه، أو عن الشخص يدخل إلى أرض يعود منها الناس!
كان «كورونا» إلى ما قبل الرابع والعشرين من فبراير، حين انطلقت أولى شرارات الحرب، هو اللاعب الوحيد الذي يستحوذ على الملعب أمامنا وعلى الأضواء معاً، فلما اشتعلت الحرب تراجع مغادراً ملعبه دون مقدمات، ومن بعدها راح ينحسر وينسحب إلا قليلاً، وكانت الحرب هي اللاعب الجديد الذي يتقدم ليحتل مكانه على الشاشات وفوق الصفحات!
والنظرية تقول إنه لا شيء يتم في العالم بالصدفة، ولا شيء يفاجئنا هكذا من فراغ، ولأنها نظرية معتبرة ومنطقية، ولأن لها ما يجعلها أقرب ما تكون إلى الواقع الذي نعيشه، فإن الذين يؤمنون بها ويعتقدون في منطقيتها، كانوا قد وجدوا في انسحاب لاعب من الملعب الدولي، وفي مجيء لاعب مختلف في مكانه، مسألة لا يمكن أن تخضع للصدفة ولا أن تعترف بها!
وقد وجدنا أنفسنا أمام أكثر من علامة تهيئ الطريق أمام جدري القرود، وكانت العلامات كلها تضعه تحت العدسات والكاميرات، وربما كان الهدف هو اختبار مدى قدرته على أن يصمد، ثم على أن يسرق الكاميرا من الحرب الروسية على أوكرانيا، كما سبق أن سرقت هي الكاميرا من «كورونا»!
كان من بين هذه العلامات حديث منظمة الصحة العالمية عن اجتماع طارئ دعت إليه، وكان الهدف كما قيل عند الإعلان عن الدعوة هو البحث في الطريقة المناسبة للتعامل مع اللاعب الجديد، ولم تكن المشكلة في عقد الاجتماع، ولكنها كانت في وصفه بأنه: طارئ. فهذه الكلمة في وصف فيروس لم تتجاوز حالات الإصابة به مائة حالة عند الدعوة للاجتماع، لا بد أن تكون مقلقة نفسياً للبشر حول العالم، قبل أن تقلقهم على المستوى الصحي الذي يبقى هو الشاغل الأول إذا ما كان الكلام عن وباء أو ما يشبه الوباء!
فالعالم لم يبرأ بعد مما أصابه من جراء انتشار «كورونا»، ولا تزال عواصمه على اختلافها تقضي ما يمكن أن يقال إنها مرحلة النقاهة مما أصابها، وهي في أشد الحاجة إلى نبرة من التفاؤل على لسان المنظمة الأم لقضية الصحة عالمياً، لا إلى هذه اللغة التشاؤمية التي استقبلها الذين سمعوا بالاجتماع، أو تابعوا ما جاء بعده من بيانات صدرت عن المنظمة!
ولو توقف الأمر عند حدود هذه المنظمة، ما كان في الموضوع ما يخيف أو يثير القلق، فلقد كان هذا النهج منها هو نهجها الذي عاشت تخاطبنا به أيام «كورونا» وكان يؤخذ عليها ولا يزال!
لم يتوقف الأمر عند حدودها ولكنه تجاوزها إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أطلق تصريحاً خلال زيارته إلى جنوب شرقي آسيا هذا الأسبوع، فقال ما معناه إن تفشي جدري القرود: مصدر قلق للجميع!
وعندما يخرج تصريح بهذا المعنى على لسان رئيس أقوى دولة في العالم، فإن في مقدورنا أن نتخيل شكل تأثيره على الذين يسمعون به في كل مكان، وفي إمكاننا أن نتصور إلى أي مدى سيكون مقلقاً، وإلى أي حد سيكون مثيراً للمخاوف لدى كل إنسان اصطلى من قبل بنار الفيروس القديم!
وقد مضى ساكن البيت الأبيض يقول وهو يخوض في الموضوع على هامش جولته الآسيوية، إن شركات الدواء واللقاحات تنظر ماذا سيكون عليه الأمر لو انتشر الفيروس الجديد، وماذا سيكون عليها أن تقدم من وسائل الوقاية والعلاج؟!
صحيح أن الرئيس الأميركي قد عاد بعدها بساعات محاولاً تخفيف وطأة كلامه على الناس، ولكن الأثر الأول من جراء ما قال كان قد وقع وانتهى الأمر، وكان قد انتقل إلى مربع يشبه فيه الانطباع الأول الذي يوصف دائماً بأنه هو الذي يدوم!
ومن بعد بايدن كانت منظمة الصحة العالمية قد عادت هي الأخرى وراحت تحاول في ذات الاتجاه، وكانت في عودتها ترسل التطمينات وتقول إن لقاح الجدري العادي يستطيع مواجهة فيروس جدري القرود، وأنه لا داعي للقاحات جماعية كما كان الحال مع «كورونا»، وأن هذا الفيروس الجديد منخفض القدرة على الانتشار، وأنه على العكس من «كورونا» لا يتحور!
كان هذا كله يحدث ولا يزال، ولكنه لا ينفي أن لاعباً جديداً يحاول التسلل إلى ملعب العالم، وأنه يحاول سرقة الكاميرا، ليس من الفيروس السابق عليه، ولكن من الحرب الروسية على أوكرانيا ذاتها، وأن الذين عاشوا أيام «كورونا» يتطلعون إليه بالكثير من الجزع والخوف!
ولكن الشيء الذي يمنحنا بعضاً من القوة، ونحن نواجه هذا اللاعب المتسلل، أننا نستقبله مسلحين بتجربة قاسية مع «كورونا»، وقد عشنا نسمع المثل الشعبي يدعونا إلى أن نسأل المجرّب قبل أن نسأل الطبيب!