توقيت القاهرة المحلي 22:01:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بوتين والسادات... كلاهما ينشغل بالغابة لا بأشجارها!

  مصر اليوم -

بوتين والسادات كلاهما ينشغل بالغابة لا بأشجارها

بقلم:سليمان جودة

قال الرئيس الروسي بوتين إنه اشتغل سائقاً على سيارة تاكسي في الفترة التالية لسقوط الاتحاد السوفياتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991، وإنه يحزن كلما تذكر تلك الفترة، وإنه لا يعرف كيف حدث ما حدث، ولكنه فقط يذكر عمله على التاكسي وقتها ثم يأسى ويتألم!
والذين قرأوا كتاب «البحث عن الذات» للرئيس السادات يعرفون أنه عمل هذه المهنة في فترة من فترات حياته، لولا أن السادات كان قد عمل سائقاً على سيارة من سيارات النقل الكبيرة.
ومما يذكره بوتين في مقتطفات نقلتها وكالة أنباء «ريا نوفوستي» الرسمية في بلاده، أن سقوط الاتحاد السوفياتي في ذلك التاريخ لم يكن سقوطاً للاتحاد السوفياتي الذي عاش العالم يعرفه وفقط، ولكن السقوط في الحقيقة كان سقوطاً لروسيا التاريخية بكل معالمها القيصرية!
وهو يقصد روسيا التي كانت قائمة قبل الثورة التي قامت على القياصرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1917، فأقامت الاتحاد السوفياتي إلى يوم سقوطه.
ولكن المهم الآن هو ماذا يعمل بوتين حالياً، وليس المهم ما كان يعمله من قبل. فهو لا مهمة له منذ صار رئيساً على رأس روسيا الاتحادية الحالية، سوى إعادة روسيا التاريخية التي سقطت مع سقوط الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود من الزمان!
وليس سراً أنه قطع خطوات معتبرة في هذا المشوار؛ لأن الاتحاد السوفياتي إذا كان قد تمدد وقت وجوده على مساحة تصل إلى 24 مليون كيلومتر مربع، وإذا كان قد اشتمل في وقته على 15 جمهورية، إحداها روسيا الاتحادية نفسها التي يجلس بوتين على قمتها، فهذه الأخيرة تتمدد الآن على مساحة تصل إلى 17 مليون كيلومتر مربع، وهي مساحة تصل إلى ضعف ما تتمدد عليه الولايات المتحدة!
والمساحة في النهاية هي أحد عناصر القوة الشاملة التي يتحدث عنها خبراء السياسة في العالم، باعتبارها أساساً تقوم عليه البلاد القوية، فإذا عرفنا أن مساحة روسيا الاتحادية غنية بالموارد الطبيعية، وبالذات الغاز الروسي الذي تعيش أوروبا في جانب كبير من حياتها على إمداداته، أدركنا إلى أي مدى يحظى بوتين بما بين يديه بما يؤهله لاسترداد مجد روسيا التاريخية التي يتطلع هو إلى أيامها بأسى شديد.
وربما تلاحظ وأنت تقرأ عن حكاية اشتغاله سائقاً، أنه يكشف عن هذا السر للمرة الأولى، رغم أنه تكلم من قبل مراراً عن حياته قبل أن يصبح رئيساً. وهو لا يكشف عن ذلك للمرة الأولى وحسب، ولكنه يتحدث عن ذلك باقتضاب شديد، ومن دون أن يكشف عن التفاصيل، وكأنه يذكر ما كان ذات يوم في حياته، ولسان حاله يقول إنه يذكر تلك الوظيفة التي اشتغلها مضطراً، ولكنه لا يحب أن يتوقف عندها، ولا يحب أن يعيد تذكيره بها أحد.
وقد كان السادات على العكس؛ لأنه كان يحب أن يذكر أيام اشتغاله سائقاً، وعندما أصدر جريدة «مايو» الحزبية الأسبوعية في آخر السبعينات كان يكتب الصفحة الأخيرة فيها، وكان يكتبها تحت عنوان «عرفت هؤلاء»... وفي إحدى المرات خصص صفحة كاملة مما كان يكتبه عن رجل كان يعمل معه مساعداً على السيارة نفسها.
وعندما ظهر ذلك الرجل بعد النشر عنه في الجريدة، فإن السادات زاره في بيته في صعيد مصر، وحضر زواج ابنته، وكان شاهداً على عقد زواجها، وكان ظهور الرجل قصة راجت في الإعلام وقتها، وعاش المصريون يتابعونها أياماً بعد أيام!
وكلنا يعرف أن بوتين عمل ضابط مخابرات في ألمانيا الشرقية، وقت وجود الاتحاد السوفياتي حياً بين الدول، وكان هذا هو عمله الأساسي الذي عاش يذكره كلما سألوه عما كان يفعله قبل وصوله إلى الكرملين رئيساً، وقبل أن يترك الرئاسة إلى رئاسة الحكومة، ليعود بعدها رئيساً من جديد في سابقة فريدة من نوعها حقاً!
ولكن حكاية قيادة السيارات، أو سياقتها كما يقول إخواننا في المغرب العربي، ليست هي وجه الشبه الوحيد بين الرئيسين في القاهرة وموسكو، فهناك وجه شبه آخر أهم يظل يلخص في مجمله الطريقة التي كان السادات يفكر بها في زمانه، والطريقة التي يفكر بها بوتين في أيامه.
فكلاهما يتطلع إلى الغابة الممتدة أمامه من حيث هي وَحدة واحدة في الأفق، لا من حيث هي أرض مستوية أو غير مستوية وتشتمل على الكثير من الحشائش والنباتات والأشجار.
تكتشف هذا في حالة السادات عندما يتبين لك أنه منذ تولى الحكم في 1970، كان يضع أمام عينيه هدفاً واحداً لا يغيب عنه في غمرة ما قد يصادفه على الطريق من تفاصيل. هذا الهدف هو استعادة سيناء المحتلة، أياً كانت العقبات في سبيله وأياً كانت العراقيل.
وتكتشفه من خلال حديث السادات مع بعض أعضاء وفد التفاوض الذي كان يرافقه في كامب ديفيد عام 1978، منذ أن زار القدس قبلها بعام، إلى أن وقّع معاهدة السلام مع إسرائيل بعدها بعام. كان كل ما يهمه أن يضع يده على أرضه، وأن يحدد أولها وآخرها، ولكن لا شيء يهمه من تفاصيل الذهاب إلى هذه الغاية.
وكثيراً ما كان يجادل أعضاءَ في وفد التفاوض المرافق، وأنت ستشعر من الجدل المنشور في أكثر من مذكرات سياسية عن تلك الفترة، أن الوفد بكل أعضائه كان يتطلع إلى أشجار الغابة، وحشائشها، ونباتاتها، وأن السادات كان يتطلع من موقعه إلى الغابة نفسها، ولا يستوقفه فيها حشائش، ولا أشجار، ولا نباتات!
وهذا بالضبط ما تلمحه في حديث بوتين عن روسيا التاريخية، فهو لا يذكرها هكذا عابراً ثم يمر عليها، ولا يشير إليها على سبيل أن الإشارة إليها تحزنه ثم يتوقف الأمر معه عند هذا الحد، ولكنه يذكرها لأنها تعيش بقوة في عقله السياسي الباطن، ولأنه يراها شيئاً يداعب خياله، ثم يرى استعادتها هدفاً يسعى إلى بلوغه، حتى ولو لم يصرح بذلك صراحة في العلن!
وليست مشاغباته السياسية التي لا تتوقف مع الغرب كله، مرة، ومع الاتحاد الأوروبي مرة ثانية، سوى خطوات غير مباشرة في طريق الذهاب إلى استعادة روسيا التاريخية، التي لا يفارقه خيالها، ولا يبتعد عنه طيفها، ولا يغادره الوعي بها ككيان سياسي قام ذات يوم.
وليس إقدامه على ضم شبه جزيرة القرم إلى حدود روسيا الاتحادية، سوى رغبة خفية في تحويلها من روسيا اتحادية إلى روسيا تاريخية!
ولا هذا التحرش السياسي الذي يمارسه علناً مع أوكرانيا، سوى رغبة أخرى في القول بأن روسيا التاريخية التي سقطت بسقوط الاتحاد السوفياتي في حاجة إلى أن تعود، وأن في عودتها أو استعادتها ضرورة استراتيجية لاستقرار العالم وتوازنه!
القرم في الطريق إلى روسيا التاريخية تفصيلة لا تستوقفه، وأوكرانيا في الطريق إلى روسيا التاريخية تفصيلة أخرى مضافة لا تستوقفه أيضاً، ولو وقفت أي جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق في طريقه إلى هدفه الذي يشغله، فسوف تمثل تفصيلة بالدرجة ذاتها؛ لأن كل هذه التفاصيل هي مجرد أرض يقف فوقها ويتطلع إلى الهدف البعيد هناك في آخر الطريق الطويل.
هذا ما تستنتجه من حديث وكالة الأنباء الرسمية عن عمل سابق كان الرئيس الروسي يشتغل به، وهذا ما كنت تستنتجه من حديث الرئيس السادات مع وفد التفاوض الرسمي لبلاده في كامب ديفيد؛ فكلاهما يشتغل بشيء مباشر أمامنا، وكلاهما ينشغل بشيء أبعد مما يبدو للواقفين حوله على أرض واحدة، وكلاهما يرى ما وراء الغابة، قبل أن يرى ما على أرضها!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بوتين والسادات كلاهما ينشغل بالغابة لا بأشجارها بوتين والسادات كلاهما ينشغل بالغابة لا بأشجارها



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:01 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

البرهان يؤكد رفضه أي مفاوضات أو تسوية مع قوات الدعم السريع
  مصر اليوم - البرهان يؤكد رفضه أي مفاوضات أو تسوية مع قوات الدعم السريع

GMT 18:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا
  مصر اليوم - روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 17:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الإجازات الرسمية في مصر لعام 2025 جدول شامل للطلاب والموظفين
  مصر اليوم - الإجازات الرسمية في مصر لعام 2025 جدول شامل للطلاب والموظفين

GMT 05:09 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تعرف على أبرز وأهم اعترافات نجوم زمن الفن الجميل

GMT 15:04 2018 الأحد ,22 إبريل / نيسان

طريقة إعداد فطيرة الدجاج بعجينة البف باستري

GMT 00:45 2024 الأربعاء ,07 آب / أغسطس

سعد لمجرد يوجه رسالة لـ عمرو أديب

GMT 11:04 2021 الثلاثاء ,20 تموز / يوليو

منة فضالي جمهورها بمناسبة عيد الأضحى

GMT 20:31 2021 الثلاثاء ,01 حزيران / يونيو

وادي دجلة يكشف خطة الفريق للبقاء في الدوري الممتاز

GMT 09:26 2021 الأربعاء ,12 أيار / مايو

"الفيفا" يعلن مواعيد مباريات تصفيات كأس العرب
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon