توقيت القاهرة المحلي 15:18:14 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قض وقضيض عمرو موسى!

  مصر اليوم -

قض وقضيض عمرو موسى

بقلم:سليمان جودة

سألني علاء الزيود، المستشار الإعلامي في السفارة الأردنية بالقاهرة، عما إذا كنت قد قرأت المقالة التي كتبها عمرو موسى تحت هذا العنوان: القض والقضيض والعام الجديد؟!
وكنت قد قرأتها وقت نشرها على صفحات «الشرق الأوسط»، التي كانت قد نشرتها ضمن سلسلة من المقالات لأسماء بارزة داخل العالم العربي وخارجه. وكانت صحيفة «المصري اليوم» قد أعادت نشرها صباح الخميس الموافق 20 من الشهر الحالي! وكان الهدف من وراء سلسلة المقالات المنشورة هو قراءة كف العام الجديد على كل مستوى من المستويات!
كانت مقالة موسى تقرأ هذا الكف عربياً، وقد غلبت عليها النبرة التشاؤمية الواضحة، وقد لاحظت هذا منذ الكلمة الأولى فيها، بمثل ما لاحظه المستشار الإعلامي الأردني. ومن الواضح أنه قد انزعج جداً من هذه النبرة الظاهرة في المقالة، فسارع يكتب لي عمّا أحسّ به فيما كتبه الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، وعمّا إذا كان ما وصل إليه من قراءتها قد وصل إليّ بالدرجة نفسها؟!
وإذا كان هذا ما وصل إلى الرجل، وإذا كان هذا ما وصل إليّ أيضاً، فلا بد أننا لسنا بدعاً بين القراء، ولا بد أن الإحساس ذاته قد وصل إلى الغالبية من الذين طالعوا المقالة ذات العنوان السجعي اللافت، سواء كانوا قد طالعوها في هذه الصحيفة التي بادرت بالنشر، أو في «المصري اليوم» التي أعادت النشر على سبيل تعميم الفائدة بين جمهور القراء!
والغالب أن موسى لم يقصد أن يكون متشائماً فيما كتب، فلا يوجد كاتب يجلس ليكتب فيقول إنه سيكتب بنبرة تشاؤمية، ولا يوجد كاتب يقرر العكس في المقابل فيقرر أن يحمل التفاؤل بين السطور إلى القارئ. وإنما الكاتب يجري بالحروف على سطوره مأخوذاً بأجواء سائدة من حوله، وهو لا يستطيع أن ينفصل عنها مهما حاول، ومهما جاهد ليكتب بعكس ما يحسه حوله، وما يتابعه، وما يراه أمام عينيه في الأفق المفتوح، وإذا كتب بما لا يحسه فسوف تكون كلماته خالية من المذاق!
وأتخيل أن شيئاً من هذا قد حدث مع كاتب «القض والقضيض» ولا بد أن الأجواء التي أحاطت به منذ ما قبل الكتابة قد فرضت عليه اختيار العنوان الذي كان له من مذاق المقالة نصيب، ولا بد أن الأجواء نفسها قد جعلت المحتوى يخرج إلى الناس على نحو ما خرج عليه!
ربما حدث هذا لأن صاحب المقالة رجل سياسي قبل أن يكون كاتباً، ومن شأن السياسي أن يكون واقعياً، وألا يُجمّل الواقع الذي يراه أو يضيف إليه من الرتوش الكاذبة ما ليس فيه، أو هكذا على الأقل نتصور السياسي الذي يظل صادقاً مع نفسه فلا يخدع ذاته ولا يخادع الآخرين!
والذين طالعوا مذكرات موسى التي صدرت في جزأين، لا بد أنهم لاحظوا واقعيته في الحديث عما رآه في مسيرته الطويلة، ولا بد أنهم قد استوقفهم أنه لم يشأ أن يُزين ما لا يجدي فيه التزيين، ولا بد أنهم قد استوقفهم أنه فعل ذلك غير عابئ بما يمكن أن يجره عليه من متاعب، وقد حدث هذا معه بالفعل وقت صدور الجزء الأول، ثم تكرر نسبياً مع صدور الجزء الثاني، لولا أنه كان قد عاهد نفسه منذ البداية ألا يخاف ما دام قد قرر أن يقول!
ماذا كان عساه أن يقول بخلاف ما قاله في مقالته الحزينة؟! ماذا كان عساه أن يقول إذا كان هذا هو الحال العربي في كل اتجاه تقع عليه عيناك؟! وماذا كان في مقدوره أن يفعل إذا كان كلما تطلع إلى الخريطة العربية أمامه وجدها على ما نراها عليه أمامنا من بؤس، ومن تعاسة، ومن هوان على الناس؟! وهل كان في إمكانه أن يداري؟! وكيف يداري إذا كان كلما وضع قلمه في مداده، خرج له القلم بما جرى به فوق السطور عن القض والقضيض وبما قرأناه مما هو منشور؟!
إذا شئنا أن نجيب عن هذه الأسئلة كلها، فليس أمامنا سوى أن نعود إلى قصة اللوحة الفنية الشهيرة التي رسمها بيكاسو وقت الحرب الأهلية الإسبانية 1937!
وقتها كان الألمان النازيون والإيطاليون قد دخلوا إسبانيا يقفون إلى جوار القوميين الإسبان في مواجهة حركة المقاومة، وكانت هذه الحركة تتحصن في الكثير من قرى الشمال، ولكنها كانت تتحصن أكثر في قرية اسمها جرنيكا!
وفي سبيل إخماد المقاومة فإن القوات المهاجمة من النازيين والإيطاليين قد قصفت جرنيكا كما لم تقصف مكاناً مثلها في إسبانيا، ولم يكن الذين رأوا القرية بعد تسويتها بالأرض يصدقون أن بشراً عاشوا فيها من قبل، فلم تكن طوبة فيها قد بقيت في مكانها، ولم يكن أحد من أهلها تقريباً قد بقي حياً، ولا كان الذين عرفوها فيما سبق يستطيعون أن يميزوا فيها شيئاً!
ولا تزال تفاصيل اللوحة مخيفة لكل عين تتطلع إليها معلّقة على كل جدار، وإذا ما جرّبت أنت أن تتطلع نحوها فسوف تفزعك ألوانها منذ اللحظة الأولى، وسوف تذكر ما قاله صلاح عبد الصبور عن «رؤوس الحيوانات التي على جثث الناس، ورؤوس الناس التي على جثث الحيوانات» كأنه، يرحمه الله، كان يقصد أن يشير إلى لوحة جرنيكا من دون أن يسميها!
سترى أطراف الحيوانات تتطاير في أرجاء اللوحة، وسترى أشلاء الإنسان يتقاذفها الفنان في كل اتجاه، وسترى الفرشاة مبللة بالدم في كل حركة على طول جرنيكا وعرضها، وسترى الوجع، والألم، والأسى، مفردات منثورة بين التفاصيل الصغيرة!
وليس في تاريخ اللوحة المكتوب ما يشير بوضوح إلى الأسباب التي دعت بيكاسو إلى رسمها بهذا الإحساس الطاغي، ولا أحد على يقين مما إذا كان الفنان قد سمع من آخرين بما ارتكبه النازيون والطليان في القرية، أم أن أحداً قد دعاه إلى المجيء إليها ليرى بعينيه ما جرى فيها؟!
وأياً كان سبيله إلى ما رسم، وإلى ما انفعل به، وإلى ما جعل الآخرين ينفعلون بالدرجة نفسها، كلما ألقوا نظرة على جرنيكا، اللوحة لا القرية، فالمهم أنه رسم ما رآه، والمهم أنه جعل من لوحته سجلاً خالداً لما كان في القرية الإسبانية من جرائم وحشية على يد النازيين والإيطاليين، والأهم أنه جعل من الفن سلاحاً أقوى من سلاح القتلة أنفسهم!
والسؤال هو: ما علاقة هذا كله بمقالة القض والقضيض؟! وما علاقة ما رسم بيكاسو القرن الماضي، بما كتب موسى في القرن الواحد والعشرين؟! وماذا بالضبط يربط بين لوحة ارتسمت في وقتها بالألوان، وبين مقالة جرت سطورها في وقتنا بالكلمات؟!
العلاقة أن النازيين قد جاءوا إلى الفنان يوماً يسألونه: لماذا أخرج اللوحة بهذا القدر من البشاعة، ولماذا ملأها بالتفاصيل التي تبعث الرعب في نفس كل متطلع إليها، ولماذا، ولماذا... إلى آخر ما كان يؤرقهم في كل مرة يسمعون فيها أن أمر اللوحة يزداد شيوعاً وانتشاراً بين الناس؟!
ولم يفكر في الإجابة طويلاً، ولكنه قال سريعاً وفي هدوء: لست أنا الذي رسمت جرنيكا في الحقيقة، ولكنكم أنتم الذين رسمتموها بأيديكم، وأنتم الذين سبقتموني إلى هناك ففعلتم بها ما يراه الذين يتأملون ما رسمت، وكل ما قمت به أني نقلت إلى داخل إطارها ما وجدته منكم أمامي في القرية على الأرض، ولم أفعل شيئاً سوى أني جعلت الفن ينطق نيابةً عن الواقع الأليم!
ولا أظن أن جواب عمرو موسى سيختلف، لو أنه صادف عربياً هنا، أو صادفه عربي آخر هناك، ثم سأله الاثنان عن السبب الذي دعاه إلى ارتداء نظارة سوداء وهو يكتب عن القض والقضيض!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قض وقضيض عمرو موسى قض وقضيض عمرو موسى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 23:48 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يناقش إبعاد بعض وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله
  مصر اليوم - ترامب يناقش إبعاد بعض  وسائل الإعلام من البيت الأبيض مع نجله

GMT 14:12 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
  مصر اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 03:10 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

داليدا خليل تستعد للمشاركة في الدراما المصرية

GMT 21:21 2015 الأربعاء ,15 إبريل / نيسان

أهالي قرية السلاموني يعانون من الغرامات

GMT 02:17 2016 الثلاثاء ,21 حزيران / يونيو

فوائد عصير الكرانبري لعلاج السلس البولي

GMT 01:18 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

سامسونج تكشف عن نسخة باللون الأحمر من جلاكسى S8

GMT 17:27 2022 الثلاثاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

أطعمة تمنع مرض الزهايمر أبرزها الأسماك الدهنية

GMT 15:02 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

ريلمي تعلن موعد إطلاق النسخة الجديدة من هاتف Realme GT Neo2T

GMT 13:46 2021 الثلاثاء ,05 تشرين الأول / أكتوبر

رامي جمال يروج لأغنية "خليكي" بعد عودة انستجرام

GMT 04:47 2021 الأربعاء ,08 أيلول / سبتمبر

{غولدمان ساكس} يخفض توقعات نمو الاقتصاد الأميركي

GMT 05:00 2021 الأربعاء ,14 تموز / يوليو

تفريغ 964 طن حديد في ميناء غرب بورسعيد
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon