بقلم:سليمان جودة
اختار ألوك شارما، رئيس قمة المناخ الدولية كوب 26، أن يخاطب العالم من القاهرة، فكتب مقالاً نشرته صحيفة «المصري اليوم» في صفحتها الأولى تحت هذا العنوان: يجب أن نحقق ما اتفقنا عليه في غلاسكو.
المقال خرج إلى النور صباح الاثنين من هذا الأسبوع، وجاء من حيث توقيت نشره مرتبطاً بمناسبتين لهما علاقة بموضوعه: أما أولاهما فكانت في منتدى شباب العالم الذي اختتم أعماله في شرم الشيخ قبل أسبوع من اليوم، لأن إحدى جلساته كانت تبحث في معالم الطريق من غلاسكو البريطانية التي انعقدت فيها قمة المناخ الماضية، إلى شرم الشيخ المصرية التي ستنعقد فيها القمة المقبلة آخر هذه السنة.
وأما المناسبة الثانية فهي أن شارما كان في القاهرة قبل نشر مقاله بساعات، وكان قد جاء يرى كيف يمكن أن تبني قمة شرم الشيخ على قمة غلاسكو، وكيف لا يحدث بينهما انقطاع يضر بالبيئة، ويضاعف من تغيرات المناخ التي تضرب عالمنا المعاصر من كل اتجاه.
ولم يكن شارما يدري وهو يقضي ساعات قليلة في قاهرة المعز، أن صحف اليوم التالي التي ستنشر نبأ زيارته، ستحمل في الوقت نفسه خبر ثوران بركان في أقصى الأرض، وأنها ستكتب أن ثورانه إنذار متجدد بأن عبث الإنسان على ظهر الكوكب قد فاق الحدود، وأن هذا البركان من بين عواقب العبث البشري الذي لا يريد أن يتوقف أو حتى يتراجع.
البركان ثار في جزيرة تونغا جنوب المحيط الهادي، وبلغ حداً من الغضب وصل إلى أن موجات التسونامي الناتجة عنه أصابت عدداً من المدن الأميركية واليابانية على جانبي المحيط، ووصلت في مدها ومداها إلى حد أنها ضربت منطقة في تشيلي تبعد عشرة آلاف كيلومتر عن مركز البركان.
ولم يكن بركان تونغا فريداً من نوعه، ففي كل ركن من أركان الأرض ستقع عيناك على ما يماثل أو يشبه هذا البركان، وفي كل مرة سيمثل ما تراه من هذا النوع غضباً مفهوماً من الطبيعة.
وقد كان العنوان الذي اختاره شارما لمقالته دالاً في موضوعه، لأنه لا يقول شيئاً سوى أن على الذين تكلموا عن المناخ وتغيراته في غلاسكو ألا يتوقفوا عند حدود الكلام، وأن يتجاوزوا ذلك إلى مرحلة يتحول فيها كلامهم إلى فعل له أثر أمام الناس. ذلك أن الدول التي اجتمعت في القمة السابقة، إذا كانت قد احتشدت حتى وصل عددها إلى 197 دولة، فهذا في حد ذاته كان إنجازاً علينا أن نتوقف أمامه، لا لشيء، إلا لأن موضوع المناخ لم يكن يثير اهتمام مثل هذا الحشد الدولي من قبل، ولا حتى كان يستثير اهتمام حشد أقل منه، فإذا كان قد استثار كل هذا العدد من العواصم إلى هذه الدرجة، فالمعنى أن القضية التي احتشدوا من أجلها ليست فقط قضية تنذر بالخطر، ولكنها قضية في حاجة إلى إجراء حقيقي يجري اتخاذه بلا تأخير.
ولم يتردد رئيس قمة المناخ كوب 26 في وصف إنجاز غلاسكو بأنه انتصار، ولكن الرجل استدرك سريعاً ليقول إنه انتصار هش، وهو انتصار سيظل كذلك إلى أن يتمكن أصحابه من تقديم ما يدل على أنهم جادون في فعل شيء، وأن لديهم ما يمكن أن يتوافقوا عليه بما يوقف هذه التغيرات التي تجعلنا نشعر بأننا نعيش في عالم ليس هو العالم الذي عشناه بالأمس.
ولست أذكر شيئاً في ملف البيئة والمناخ، بقدر ما أذكر صورة كانت منشورة للوزير الأميركي السابق جون كيري في الصفحات الأولى من الجرائد في 2015. وقتها كان وزيراً لخارجية باراك أوباما، وكان قد ذهب مندوباً عن الرئيس الأميركي الأسبق، ليوقّع على اتفاقية المناخ التي وقّعها العالم في ذلك العام في باريس.
ولم يشأ الوزير الأميركي كيري أن يجعل من توقيعه توقيعاً تقليدياً شأن أي توقيع قام به من قبل، فأحضر حفيدته الطفلة الصغيرة ووضعها أمامه على طاولة التوقيع، بحيث كانت إحدى يديه تحيط بها، بينما اليد الأخرى تجري بالتوقيع على الورق.
وكان المعنى في اللقطة الشهيرة التي ظهر بها مع الحفيدة، ورأت فيها الصحف والشاشات صورة نادرة، أن الاتفاقية التي جلس يوقعها هي من أجل الجيل المقبل الذي تمثله حفيدته، ومن أجل الأجيال التي ستأتي من بعد جيلها بالتأكيد.
ولا بد أن شهوراً قليلة لم تكد تمضي حتى أصيب كيري بإحباط كبير، وحتى كان قد راح يذكر صورته مع حفيدته في حزن وأسى، وحتى كان قد ظل يتأملها مُعلقة في بيته، وهو لا يكاد يصدق أن ما وقّع عليه باعتباره التزاماً على بلاده وعلى سواها من الأطراف الموقّعة، قد أصبح لا يعني واشنطن في شيء.
فما كادت إدارة باراك أوباما تغادر مواقعها في العام التالي، لتجلس إدارة دونالد ترمب في مكانها، حتى تبين أن الرئيس الجديد لا يحمل اهتماماً كبيراً ولا صغيراً بالاتفاقية، ولا بموضوعها، وحتى تبين أنه آخر مَنْ يمكن أن يلتزم بما تعهدت به الإدارة السابقة عليه.
وكان أن أعلن ترمب انسحاب بلاده من الاتفاقية، التي ظلت طوال سنواته الأربع حبراً على ورق، رغم أن الولايات المتحدة تحتفظ بنصيب الأسد في الانبعاثات التي تخرج منها، ومن قطاعها الصناعي بالذات، فتتلوث البيئة عالمياً، ويتزايد الاحتباس الحراري الذي يعاني من عواقبه أهل الأرض.
ويبدو أن جون كيري كان صادق النية في توقيعه على اتفاقية باريس، وكان مؤمناً بالقضية التي جلس في عاصمة النور يوقّع على اتفاقيتها، لأن ترمب ما كاد يغادر مكتبه البيضاوي، حتى كانت إدارة جو بايدن التالية له قد استدعت الوزير الأسبق، لا ليكون وزير خارجيتها كما كان أيام أوباما، ولكن ليكون مبعوثها عالمياً في ملف المناخ وتغيراته المتسارعة.
وهكذا، كتب الله لجون كيري أن يعود ليرد شيئاً من الاعتبار، ليس فقط لحفيدته، ولكن لأجيال كثيرة مقبلة كان ترمب قد استخف بها، وبحقها في أن تعيش في بيئة نظيفة لا تشوبها انبعاثات، ولا تختلط بالملوثات، ولا تؤرقها تغيرات مفاجئة في مناخها من نوع ما نراه. ومن بعدها صار كيري مبعوثاً متجولاً يحط في كل مكان تكون البيئة هي القضية المطروحة فيه، ويكون المناخ هو موضوع النقاش.
ففي منتدى شباب شرم الشيخ كان حاضراً يتحدث افتراضياً عن الطريق من غلاسكو إلى هناك، وكان يعوض ما فات بلاده بيئياً في سنوات ترمب الأربع.
وإذا كان لقمة شرم الشيخ المقبلة من هدف مضاف يمكن أن تحققه في موضوعها الذي ستبحثه، فهذا الهدف هو أن انعقادها سيكون فرصة سانحة تقول من خلالها القاهرة، إن العالم إذا كان قد اختار مصر أرضاً للقمة الـ 27 نيابة عن القارة السمراء، فهي قارة لا يتجاوز نصيبها في الانبعاثات العالمية ثلاثة في المائة من المجمل، أما النسبة المتبقية فهي من نصيب الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي بالأساس. وسوف تظل حفيدة كيري في صورتها الشهيرة تعيد تذكير أصحاب القرار وصناع السياسات في العالم، سواء كانوا في قمة شرم الشيخ، أو كانوا في غير قمة شرم، بأن البيئة التي تختنق ليست كلاماً يقال من أجلها في غلاسكو، ثم لا شيء بعد ذلك من الاتفاق أو من التوافق بين الحشود التي كانت حاضرة، ولكنها برنامج عمل يتم لإنصاف الأرض من الإنسان.