بقلم: سليمان جودة
قضى سعد باشا زغلول عاماً من حياته منفياً في جزيرة جبل طارق، وكان على مدى العام يراسل رجالات حزب «الوفد» في القاهرة، وكان ذلك في بداية العشرينات من القرن الماضي، ومن قبلها كان قد ذهب منفياً إلى جزيرة سيشل، وإلى غيرها من الجُزر والأماكن، وفيها كلها لم يكن يملك سوى أن يجلس ويكتب، رغم أن براعته التي اشتهر بها كانت في الخطابة ولم تكن في الكتابة!
وفي بعض المرات كان سعد باشا يلاحظ وهو يكتب رسائله، أنه قد أطال فيما يريد أن يقوله بأكثر من اللازم، فكان يختم رسالته بعبارة صارت من بعده مثلاً في موضوعها. كان يقول ما معناه أنه يعتذر مقدماً عن الإطالة؛ لأنه لا وقت عنده للاختصار، وكان المعنى أن المهارة كلها هي في الكلام القليل القادر على اصطياد الفكرة، وليست في الكلام الكثير الذي قد يُنسي بعضه بعضاً!
ولا أجد شيئاً ينطبق عليه هذا المعنى في هذه الأيام، قدر ما أجده في عبارة من حديث الأمير خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع السعودي، إلى شبكة «فايس» الأميركية، الذي بثته قناة «العربية»، ونشرت «الشرق الأوسط» أهم عناوينه على صفحتها الثانية صباح السبت!
كان الأمير خالد يتكلم عن أصل القضية بين المملكة وبين إيران، وكان في إمكانه أن يطيل وأن يقول كلاماً كثيراً، على طريقة سعد باشا زمان، ولكنه لخص القضية كلها في عبارة من كلمات جاءت قليلة للغاية، غير أنها كانت شديدة التعبير عن جوهر الموضوع!
قال: خلافنا مع إيران هو تصادم رؤى، لدينا «2030» ولديها «1979»!
وهذا بالضبط هو الأصل في كل ما تنام عليه المنطقة وتقوم، منذ أن قامت الثورة في طهران في فبراير (شباط) 1979، فأربكت محيطها العربي وغير العربي ولا تزال.
إن العاصمة الإيرانية تضبط ساعتها على ذلك التاريخ، وتقيم فيه، ولا تريد أن تغادره، وهي تجد متعة في الجلوس هناك، وتبدو وكأن جسدها حاضر معنا في 2020، بينما عقلها منفصل عن الجسد، فهو غائب ومقيم في عام الثورة لا يفارقه. وفي المقابل تتطلع الرياض إلى مستقبلها، فتراه في «رؤية 2030»، التي أعلنها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ثم راح منذ كشف عنها يراهن عليها وعلى طاقة الأمل فيها!
ولو أراد أحد أن يتعقب ما قيل عن ممارسات حكومة المرشد في المنطقة من حولها، على امتداد أربعة عقود من الزمان مضت، هي عمر ثورتها، فسوف يكتشف أن أطناناً من الأحبار قد سالت فوق أنهار الصحف، وأن طهران قد استهلكت كثيراً جداً من الوقت ومن الجهد في مسيرتها وفي مسيرة جاراتها، وأنها كانت تستطيع أن تنفق وقتها وجهدها فيما يفيد شعبها ولا يضر منطقتها، ولكنها اختارت أن تعيش حبيسة ثورة انطلقت في حينها، فأعادت المنطقة كثيراً إلى الوراء!
كان في مقدور حكومة الملالي أن تفكر بطريقة مختلفة، وكان في إمكانها أن تفعل ذلك لو أنها حررت نفسها، ثم حررت دستورها من فعل الثورة، الذي لا يزال يسكن العقل في العاصمة الإيرانية ويسكن الدستور معاً. والذين قرأوا كتاب مذكرات وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، الصادر في بيروت قبل شهور، تحت عنوان «سعادة السفير»، سوف يلاحظون هذا بسهولة، وسوف يلاحظون أن ظريف لا يخفي هذه الحقيقة في المذكرات كلها من الغلاف إلى الغلاف، ولكنه يظهرها ويفاخر بها!
إنها الحقيقة التي تقول إن دستور البلاد مسكون في مادة من مواده بنص يدعو إلى تصدير الثورة وتوزيع منتجاتها على الجيران، والحقيقة التي تقول إن ذكرى مرور أربعة عقود على الثورة في فبراير الماضي، لم تكن كافية لإقناع الذين ورثوا هذا النص الدستوري عن سابقيهم، بأنه صار فوق قدرة إيران نفسها على احتمال عواقبه، وأنه أصبح نصاً خارج العصر، وأنه يكلف المنطقة في كل نهار ما هي في غنى عنه، وأنه فخ للجمهورية الإسلامية أكثر منه نصاً من سطور في دستور!
إن دولة بكاملها تعيش أسيرة في قبضة الثورة منذ قامت، والمشكلة ليست في أنها تعيش أسيرة ثورتها فقط، ولكن المشكلة أنها تتعامى عن كل الذين يقذفون لها طوق نجاة، تتعامى عنهم إذا فعلوا ذلك من خارج حدودها، وترسلهم إلى العزل والحبس والإقامة الجبرية، إذا كانوا من بين مواطنيها!
هذه دولة توقف بها الزمن عند نهاية السبعينات، ولو كان توقفها هناك يخصها وحدها، لكان الأمر شأناً يتعلق بها في حدودها، ولكن المشكلة أنها تأبى إلا أن تشد منطقتها معها إلى حيث تعيش، وحيث تقيم، وحيث تتعاطى أفكاراً منتهية الصلاحية، ولأن هذه هي طبيعة أفكارها، فإنها قد سممت المنطقة من حولها، ولا تزال تسممها. إنها تأبى إلا أن نشرب معها من البئر المسمومة ذاتها، التي شربت منها أربعين سنة ولا تزال تشرب فلا ترتوي، ولا تزداد إلا نهماً وعطشاً!
هذه دولة تتشبث بالماضي وتتعلق فيه، وهذه دولة تعاني من تضخم جسمها وضمور عقلها، وهذه دولة تنسى أن أعمار الثورات كأعمار الإنسان، تمر من الطفولة إلى المراهقة، ومن بعدهما تصل إلى سن النضج الذي يهذب السلوك والخطوات. وليس من الممكن ولا حتى من الطبيعي أن تبقى الثورة في عمر الطفولة مدى حياتها، أو أن تظل في سن المراهقة وهي تتجاوز الأربعين!
الثورة التي لا تعرف من مراحل العمر سوى مرحلة الطفولة ومن بعدها المراهقة، هي عبء على أهلها، بقدر ما هي عقبة في طريق العبور إلى المستقبل، وهي تشبه الكائن الذي جاء إلى الدنيا بخلل في أجهزته التي يستمد منها أسباب الحياة، وهي أحوج إلى التقويم منها إلى التعميم على الجيران!
إيران مدعوة إلى أن تخلع رداء الثورة؛ لأنه ليس رداء الدولة الذي عليها أن ترتديه، وهي مدعوة إلى أن تجعل من عام 1979 محطة وراءها لا أمامها، فالدول تستوعب ثوراتها وتتجاوزها وتديرها، وليست الثورات هي التي تدير الدول وترشدها وتتحكم في خطواتها!
وإذا كانت الرياض تملك «2030» في مواجهة «1979»، فالغلبة في نهاية الجولة ستكون للأولى؛ لأن الماضي لا ينتصر على المستقبل، ولأن فكر الدولة يكسب في معركته مع منطق الثورة، ولأن العالم لا يتواءم إلا مع العواصم التي تعرف المسؤولية في المجتمع الدولي وتمارسها!