بقلم: سليمان جودة
مشهد اقتحام عدد من أنصار مقتدى الصدر في العراق مبنى البرلمان، يبدو كأنه رأس جبل من الثلج لا نرى منه إلا رأسه العائم!
أما أول جسد الجبل نفسه فهو واصل إلى عام 2003 على وجه التحديد، عندما غزت الولايات المتحدة أرض العراق، ثم راحت من بعدها تضع دستوراً جديداً للبلد، وراحت تصوره لنا على أنه الدستور الذي سيجلب الديمقراطية للعراقيين، وأنه سوف يأتي لهم بالمَنّ والسلوى! والحقيقة أنه لا جلب ديمقراطية، ولا جاء بالمَنّ والسلوى، وإنما خنق العراق كما لم يخنقه شيء في تاريخ أرض بابل الطويل، وأوصله في النهاية إلى هذه الحالة المتردية!
وفي بدايات ثورة يوليو (تموز) 1952 كانت الفنانة تحية كاريوكا قد قالت إن الثورة إذا كانت قد طردت الملك فاروق من الحكم، فإنها جعلت في مكانه 12 من الفواريق. وكان قصدها أن مجلس قيادة الثورة إذا كان قد تشكل من 12 عضواً، فكل واحد منهم قد راح يتحول مع الوقت إلى فاروق من نوع آخر!
وفي 2003 كان العراق عراقاً واحداً، ولم يكن هناك حديث عن أكراد في الشمال، ولا عن سنة في الوسط، ولا عن شيعة في الجنوب. وبالطبع فإن هؤلاء كلهم كانوا موجودين في أماكنهم على الخريطة، ولكن الحديث كان عن عراق واحد يضم الجميع من دون تمييز، وكان العراق الواحد موجوداً من الناحية النظرية على الأقل. لم تكن في بلاد الرافدين ثلاثة عراقات وربما أربعة عراقات، كما يبدو الأمر في هذه اللحظة الراهنة، ولا كان في أرض بابل حديث عن رئيس للبلاد ينتمي إلى طائفة، ولا عن رئيس برلمان يخرج من طائفة أخرى، ولا عن رئيس حكومة يأتي من طائفة ثالثة. لم نكن نسمع بشيء من هذا ولا كنا أبداً نراه.
كان عراق ما قبل 2003 يختلف عن عراق ما بعد هذا التاريخ، وكان الفارق بين العراقين الاثنين هو بالضبط ما نراه في مشهد اقتحام البرلمان، وكان الفارق بين الحالتين هو بالضبط أيضاً ما جاءت به الولايات المتحدة في الدستور الجديد للبلاد.
وهل هناك ما هو أسوأ من أن تكون ولاية الرئيس برهم صالح قد انتهت من شهور، ثم يعجز البرلمان العراقي عن الاجتماع لاختيار رئيس جديد خلفاً للرئيس المنتهية ولايته؟! لقد انعقد البرلمان أكثر من مرة لاختيار رئيس آخر، ولكنه في كل مرة كان يجد نفسه في المربع الأول، وكان إذا عاد للانعقاد من جديد، لم يكن حظه بأفضل مما كان في المرات السابقة!
هل هناك ما هو أسوأ من أن يجتمع البرلمان فلا يكتمل نصابه، ولا يعرف بالتالي كيف يختار؟! هل مرّ بالعراق شيء كهذا من قبل، وهل هذا هو ما كانت واشنطن تريده وهي تعمل على إسقاط الرئيس صدام حسين؟!
وهل هناك ما هو أسوأ من أن تجري انتخابات البرلمان في أكتوبر، ثم تعجز القوى السياسية الفائزة عن تشكيل حكومة حتى اللحظة؟! لقد استدارت السنة وكاد العام يُكمل دورته، وبقي البلد يدور في مكانه على أمل أن تتشكل حكومة تعبّر عن حقيقة أوزان القوى السياسية على الأرض، ولكن الأمل في ذلك يبدو كأنه سراب كلما جاءه الناظر إليه لم يقع منه على شيء!
لقد فاز التيار الصدري الذي يتزعمه مقتدى الصدر بالأغلبية النسبية في الانتخابات، ومع ذلك، فهو غير قادر حتى الآن على التحالف مع أي تيار آخر لتشكيل حكومة جديدة، ولا تزال الحكومة القديمة برئاسة مصطفى الكاظمي جالسة في مقاعدها!
وعندما رشح تحالف «الإطار التنسيقي» محمد شياع السوداني لرئاسة حكومة جديدة، لم يصادف الترشيح هوى لدى الصدر، الذي أعلن عدم رضاه عن المرشح السوداني، واقتحم أنصاره مبنى البرلمان، تعبيراً عن عدم رضا التيار الصدري، رافعين راية الحسين فوق قبة مبنى البرلمان!
وقد تمنيت لو أن أنصار الصدر قد رفعوا راية العراق، لا لشيء، إلا لأن الولاء السياسي في كل الأحوال يجب أن يكون للبلد الذي تظلل رايته جميع العراقيين من دون استثناء، ولأن راية الوطن لا يجوز أن تعلوها راية سواها.
كل الاحترام بالطبع للإمام الحسين، ولكننا في واقعة اقتحام البرلمان نتحدث عن برلمان بلد، لا برلمان فئة ولا طائفة، وقد قيل دائماً عن النائب البرلماني في مصر مثلاً، إنه نائب عن الأمة كلها، لا عن الدائرة الانتخابية التي اختارته، لأنه حتى وإن كان قد جاء نائباً من دائرة بعينها، فهو يمثل الأمة كلها إذا ما وقف يتكلم تحت قبة البرلمان، أو وقف يراقب أعمال الحكومة.
وما يقال عن البرلمان في القاهرة يقال عن سواه من البرلمانات، لأن مهمة البرلمانات واحدة في العالم، ولأن النائب الذي لا يمثل الأمة قبل الدائرة، هو نائب ينقصه شيء أساسي، وهذا معناه في الحالة العراقية أن كل نائب صدري أو غير صدري، إنما يمثل الأمة العراقية، ولا يمثل طائفته فضلاً على أن يمثل دائرته.
إن التيار الصدري يطرح نفسه على أنه التيار السياسي الأحرص على استقلالية البلاد عن السياسة الإيرانية، والأشد تمسكاً بانتهاج سياسة وطنية عراقية خالصة، وهو يفعل ذلك في مواجهة «الإطار التنسيقي» الذي يقوده رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، المحسوب على حكومة المرشد في طهران، والذي لا يُخفي علاقته بإيران، ولا يعد علاقته بها سراً من الأسرار، ولا يجد أي حرج في أن يقال هذا عنه علانية كلما جاءت له سيرة على شاشة أو في صحيفة!
وقد جاءت التيار الصدري فرصة العمر في مظاهرات البرلمان، وكان في مقدوره أن يوظّفها على النحو الأمثل، وأن يقطع الطريق على الإطار التنسيقي، وأن يجعل التكتل السياسي الذي يقوده المالكي عارياً من أي غطاء سياسي أمام العراقيين، كان في إمكانه أن يفعل ذلك لو أنه أمر أنصاره برفع الراية العراقية الجامعة!
ولأن الخلاف بين الصدر وبين الإطار يدور داخل ما يسمى البيت الشيعي، فلقد كان في مقدور الإطار في المقابل أن يرفع راية العراق، عندما أطلق مظاهراته بالتوازي مع اقتحام أنصار الصدر مبنى البرلمان، ولو رفع أنصاره العَلَم العراقي، لكان قد أحرج التيار الصدري سياسياً بما يكفي، ولكان الخلاف بينهما قد خرج من داخل البيت الشيعي الواحد، إلى خلاف على أرضية الوطن الواحد.
ولكن الصورة التي نشرتها وكالات الأنباء للمالكي حاملاً السلاح في يده، ومحاطاً بمن يحملون السلاح من حوله، تقول إنه ليس الرجل الذي يمكن الرهان على عراقيته المجردة، ولا هو الرجل الذي يمكن أن يقدم وطنه العراقي الأكبر على جماعته الضيقة!
ولا رهان الآن إلا على رجل مثل آية الله علي السيستاني، الذي كلما سمعته يتكلم أتذكر عبارة عمر بن الخطاب التي يقول فيها: «أظهروا لنا أحسن ما عندكم والله أعلم بالسرائر».
فرغم أن للرجل مكانته الفريدة بين شيعة العراق كمرجع، فإنك لا تشعر في كل مرة تسمعه يتكلم سوى أنه عراقي وفقط، وأن عراقيته سابقة على ما سواها فيه، وأنه لا يقدم طائفة ولا جماعة على وطن، وأنه يخاطب رجاله دائماً بوصفهم عراقيين ولا شيء آخر.
وإذا كان السيستاني مدعواً إلى الحضور في خلاف الصدر والمالكي، فليس لأن الثلاثة ينتمون إلى طائفة واحدة، ولكن لأنه قادر على أن يرفع الراية التي لم يرفعها الاثنان!