بقلم: سليمان جودة
عاش الكاتب الأستاذ محمود السعدني ساخراً من كل شيء، وكانت السخرية سلاحاً في يده لا يخيب، وكان يعرف أن السخرية فن له قواعد وأصول، وقد بقي إلى آخر حياته يمارسها على هذا الأساس، وبقي يشكل عباراته الخاصة التي لم يشاركه فيها كاتب ساخر!
وعندما زار الطبيب في سنوات عُمره الأخيرة، فإنه رجع من عنده ليكتب كتاباً من أبدع ما كتب، وقد اختار له هذا العنوان: «وداعاً للطواجن»!
وكان وراء العنوان قصة؛ لأن السعدني - يرحمه الله - كان من المعدودين الذين يتذوقون الطعام، ويجدون متعة حقيقية في تناوله، ولا يتناولونه لمجرد ملء المعدة أو إطفاء نار الجوع. وحين أسس النادي النهري للصحافيين على الشاطئ الغربي للنيل في الجيزة، كانت مائدته في النادي تمتد كل يوم، ويتجمع حولها كثير من مشاهير البلد في كل مجال، وكأنه كان يريد أن يشاركه الأصدقاء متعة الطعام فلا ينفرد وحده بها، أو كأنه كان يريد أن يقول إن هذا هو الطعام في سوق الأطعمة، وإن هذه هي مائدته!
وكان الطبيب قد نصحه بأن ينظم طعامه، وأن يتناول كذا من صنوف الأكل وأنواعه، ثم يمتنع عن تناول كذا حفاظاً على صحته، وصيانة لها من المرض الذي كان قد بدأ يهاجمه!
وقد جلس بعدها يكتب هذا الكتاب، ويروي فيه حكايته مع الطعام، وكان يحلو له أن يقول إنه على المائدة أقرب ما يكون إلى تايسون في الملاعب! وكان هذا صحيحاً إلى مدى بعيد، فهو لم يكن فقط يمتلك ناصية الكلام في كل جلسة يوجد فيها، ولكنه كان يمتلك إلى جوارها أيضاً ناصية المائدة إذا استقر عليها يأكل ويشرب مما أحل الله تعالى!
ولم تكن هذه هي القصة كلها في الكتاب، وإنما كانت هناك قصة أخرى ربما تكون هي الأهم، فهو لم يكن يقتنع بما نصح به الطبيب في موضوع الأكل بالذات، أما السبب فهو أنه كان يرى أن الدنيا سينقصها الكثير بغير أطايب الطعام التي قضى حياته يتناولها، وباختصار فإنه قد راح يعلن تمرده على تعليمات الطبيب، ويعلن أنه سوف يأكل ما يحبه ويشرب ما يريده؛ لأن دنياه بغير ذلك لن تكون الدنيا التي عرفها، ولن يستطيع أن يتحملها ولا أن يعيشها؛ خصوصاً أنه على يقين بأن الأعمار في يد السماء!
وعلى ذلك، أمضى ما تبقى من العمر بعدها يتناول قدر إمكانه ما كان يتناوله في مراحل الحياة كلها، وكأنه الشاعر طرفة بن العبد الذي عاش يطلب ممن كان ينصحه بأن يقتصد في الحياة، أن يتوقف عما يشير عليه به، وأن يتركه يبادر منيته بما ملكت يده!
وكان السعدني يرغب في أن يقول إن إرادته في الحياة أقوى من كل شيء، وإنها أقوى من المرض ذاته، وإنه سيعيش يتكئ عليها أكثر مما يتكئ على أي شيء آخر، وإنها لن تخذله في كل الأوقات، وإنها هي أساس كل حياة قوية يريد صاحبها أن يعيشها!
وهي نظرية في الحياة ثبت أنها صحيحة، ليس لأن الإنسان محب للحياة بطبعه، ولا لأنه مقبل عليها بطبيعته، ولكن لأن إرادة الحياة تستنفر في الإنسان أقوى ما فيه، وتعطيه من القدرة على مواجهة الأخطار في لحظات التحدي، ما لا تعطيه منها في بقية اللحظات!
ويتبدى هذا كله ظاهراً في خروج العالم إلى التعايش مع فيروس «كورونا»، رغم أن العالم يذهب إلى التعايش على صورة لم يكن يعرفها قبل أن يحل الفيروس عليه، وقبل أن يحبسه «كورونا» في البيوت، ويجعله أسيراً في قبضة شيء لا يكاد يراه إلا بالميكروسكوب الإلكتروني!
يخرج العالم إلى التعايش كما لم يدخل من قبل إلى البيوت، يخرج وقد توحد في ارتداء الكمامات الطبية، فتختفي الطلة التي كانت تميز كل فرد عن الآخر، ويبدو كل إنسان إلى جوار الآخر في الكمامة الخاصة، وكأن الناس كلهم قد صاروا هيئة واحدة لا يتميز فيها شخص بشيء على الذين هم سواه!
وحين نقلت زميلتنا جميلة حلفيشي على صفحات هذه الجريدة صباح الاثنين، أن خبراء التجميل قد بدأوا في إعادة رسم شكل الوجه، فإنها كانت تشير من بعيد إلى نوع من التمرد من جانب هؤلاء الخبراء على قيود «كورونا»، تماماً كما تمرد السعدني من قبل على إرشادات الطبيب، وكما رآها تنال من حيوية الحياة ومن قيمتها، ومن قدرة الإنسان على أن يعيشها فضلاً عن أن يتحملها!
فالخبراء الذين عاشوا يتحركون على تضاريس وجه المرأة باتساعه، اكتشفوا في لحظة لم تكن على البال ولا في الخاطر، أن عدواً خفياً اسمه «كورونا» قد جاء يشاركهم مساحة الوجه، وأن هذا العدو الخفي قد خصم من وجه كل امرأة نصفه على الأقل، وأن التزام حواء بارتداء الكمامة في ظروف التعايش مع الوباء سوف يغطي نصف وجهها، وسوف يجعل من المساحة المغطاة غير ذات معنى في نظر كل خبير تجميل!
ولكن الخبراء لم ييأسوا ولم يرفعوا الراية البيضاء، وقرروا التغاضي عن النصف المغطى من الوجه إلى حين، ثم انتقلوا إلى النصف الآخر، وتوقفوا فيه عند العينين والحاجبين، وقرروا أن تكون هذه المنطقة من الوجه هي منطقة العمل وغرفة العمليات في المستقبل، واستقروا على أن يكون ذلك إلى انحسار الفيروس، أو إلى أن يتم اختراع كمامة شفافة تنهي سيطرة «كورونا» على منطقة الفم والشفتين، فكأنهم يبحثون عن حيلة تمنع الكمامة من الوقوف في طريق فنون التجميل!
ولم يكن ذلك في مجمل معناه، سوى خطوة من خطوات الانتصار المعنوي على هذا الفيروس الجوَّال الذي لم يتعب بعد من التجول، ولا يبدو أنه يفكر في الرحيل!
لقد جاء «كورونا» ومن بين نياته أن يغير من وجه العالم، ولكنه راح يزحف من وجه العالم إلى وجه المرأة من دون وجه الرجل الذي لا يبتئس كثيراً بالتجميل ولا بفنونه، ولكن حواء تبتئس إذا غابت عنها فرشاة خبراء الموضة والجمال، وربما يكون هذا هو السبب الذي دعاهم إلى الاحتيال على «كورونا» وألاعيبه، فانسحبوا من نصف وجه المرأة على سبيل التكتيك، لا بهدف إخلائه أمام العدو الذي يحتل مساحات فيه، ولكن بغرض العودة إليه من جديد خلال أقرب مدى زمني متاح!
وليست هذه سوى إرادة الحياة لدى الإنسان، فهي أقوى من أن يهزمها مكر الوباء، حتى ولو كان قد نجح في عزل العالم بعضه عن بعض لمائة يوم وأكثر، وحتى ولو كان قد راح يفاجئ العالم بالهجوم من فوق جبهة جديدة كل فترة، فالحياة مخلوقة لتتغلب على ما يقف في طريقها، وكأنها تيار من الماء يندفع في سبيله قافزاً فوق عوائق المجرى مرة، ودائراً حولها في كثير من المرات!
لا يتوقف «كورونا» عن إظهار المكر في كل مرحلة من مراحل حياته بيننا، ولكن فطرة الإنسان تملك من المكر في المقابل، ما يجعل من مكره أمراً بلا جدوى في آخر السباق!