توقيت القاهرة المحلي 14:42:23 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فطرة الإنسان التي تحتال على مكر الوباء!

  مصر اليوم -

فطرة الإنسان التي تحتال على مكر الوباء

بقلم: سليمان جودة

عاش الكاتب الأستاذ محمود السعدني ساخراً من كل شيء، وكانت السخرية سلاحاً في يده لا يخيب، وكان يعرف أن السخرية فن له قواعد وأصول، وقد بقي إلى آخر حياته يمارسها على هذا الأساس، وبقي يشكل عباراته الخاصة التي لم يشاركه فيها كاتب ساخر!
وعندما زار الطبيب في سنوات عُمره الأخيرة، فإنه رجع من عنده ليكتب كتاباً من أبدع ما كتب، وقد اختار له هذا العنوان: «وداعاً للطواجن»!
وكان وراء العنوان قصة؛ لأن السعدني - يرحمه الله - كان من المعدودين الذين يتذوقون الطعام، ويجدون متعة حقيقية في تناوله، ولا يتناولونه لمجرد ملء المعدة أو إطفاء نار الجوع. وحين أسس النادي النهري للصحافيين على الشاطئ الغربي للنيل في الجيزة، كانت مائدته في النادي تمتد كل يوم، ويتجمع حولها كثير من مشاهير البلد في كل مجال، وكأنه كان يريد أن يشاركه الأصدقاء متعة الطعام فلا ينفرد وحده بها، أو كأنه كان يريد أن يقول إن هذا هو الطعام في سوق الأطعمة، وإن هذه هي مائدته!
وكان الطبيب قد نصحه بأن ينظم طعامه، وأن يتناول كذا من صنوف الأكل وأنواعه، ثم يمتنع عن تناول كذا حفاظاً على صحته، وصيانة لها من المرض الذي كان قد بدأ يهاجمه!
وقد جلس بعدها يكتب هذا الكتاب، ويروي فيه حكايته مع الطعام، وكان يحلو له أن يقول إنه على المائدة أقرب ما يكون إلى تايسون في الملاعب! وكان هذا صحيحاً إلى مدى بعيد، فهو لم يكن فقط يمتلك ناصية الكلام في كل جلسة يوجد فيها، ولكنه كان يمتلك إلى جوارها أيضاً ناصية المائدة إذا استقر عليها يأكل ويشرب مما أحل الله تعالى!
ولم تكن هذه هي القصة كلها في الكتاب، وإنما كانت هناك قصة أخرى ربما تكون هي الأهم، فهو لم يكن يقتنع بما نصح به الطبيب في موضوع الأكل بالذات، أما السبب فهو أنه كان يرى أن الدنيا سينقصها الكثير بغير أطايب الطعام التي قضى حياته يتناولها، وباختصار فإنه قد راح يعلن تمرده على تعليمات الطبيب، ويعلن أنه سوف يأكل ما يحبه ويشرب ما يريده؛ لأن دنياه بغير ذلك لن تكون الدنيا التي عرفها، ولن يستطيع أن يتحملها ولا أن يعيشها؛ خصوصاً أنه على يقين بأن الأعمار في يد السماء!
وعلى ذلك، أمضى ما تبقى من العمر بعدها يتناول قدر إمكانه ما كان يتناوله في مراحل الحياة كلها، وكأنه الشاعر طرفة بن العبد الذي عاش يطلب ممن كان ينصحه بأن يقتصد في الحياة، أن يتوقف عما يشير عليه به، وأن يتركه يبادر منيته بما ملكت يده!
وكان السعدني يرغب في أن يقول إن إرادته في الحياة أقوى من كل شيء، وإنها أقوى من المرض ذاته، وإنه سيعيش يتكئ عليها أكثر مما يتكئ على أي شيء آخر، وإنها لن تخذله في كل الأوقات، وإنها هي أساس كل حياة قوية يريد صاحبها أن يعيشها!
وهي نظرية في الحياة ثبت أنها صحيحة، ليس لأن الإنسان محب للحياة بطبعه، ولا لأنه مقبل عليها بطبيعته، ولكن لأن إرادة الحياة تستنفر في الإنسان أقوى ما فيه، وتعطيه من القدرة على مواجهة الأخطار في لحظات التحدي، ما لا تعطيه منها في بقية اللحظات!
ويتبدى هذا كله ظاهراً في خروج العالم إلى التعايش مع فيروس «كورونا»، رغم أن العالم يذهب إلى التعايش على صورة لم يكن يعرفها قبل أن يحل الفيروس عليه، وقبل أن يحبسه «كورونا» في البيوت، ويجعله أسيراً في قبضة شيء لا يكاد يراه إلا بالميكروسكوب الإلكتروني!
يخرج العالم إلى التعايش كما لم يدخل من قبل إلى البيوت، يخرج وقد توحد في ارتداء الكمامات الطبية، فتختفي الطلة التي كانت تميز كل فرد عن الآخر، ويبدو كل إنسان إلى جوار الآخر في الكمامة الخاصة، وكأن الناس كلهم قد صاروا هيئة واحدة لا يتميز فيها شخص بشيء على الذين هم سواه!
وحين نقلت زميلتنا جميلة حلفيشي على صفحات هذه الجريدة صباح الاثنين، أن خبراء التجميل قد بدأوا في إعادة رسم شكل الوجه، فإنها كانت تشير من بعيد إلى نوع من التمرد من جانب هؤلاء الخبراء على قيود «كورونا»، تماماً كما تمرد السعدني من قبل على إرشادات الطبيب، وكما رآها تنال من حيوية الحياة ومن قيمتها، ومن قدرة الإنسان على أن يعيشها فضلاً عن أن يتحملها!
فالخبراء الذين عاشوا يتحركون على تضاريس وجه المرأة باتساعه، اكتشفوا في لحظة لم تكن على البال ولا في الخاطر، أن عدواً خفياً اسمه «كورونا» قد جاء يشاركهم مساحة الوجه، وأن هذا العدو الخفي قد خصم من وجه كل امرأة نصفه على الأقل، وأن التزام حواء بارتداء الكمامة في ظروف التعايش مع الوباء سوف يغطي نصف وجهها، وسوف يجعل من المساحة المغطاة غير ذات معنى في نظر كل خبير تجميل!
ولكن الخبراء لم ييأسوا ولم يرفعوا الراية البيضاء، وقرروا التغاضي عن النصف المغطى من الوجه إلى حين، ثم انتقلوا إلى النصف الآخر، وتوقفوا فيه عند العينين والحاجبين، وقرروا أن تكون هذه المنطقة من الوجه هي منطقة العمل وغرفة العمليات في المستقبل، واستقروا على أن يكون ذلك إلى انحسار الفيروس، أو إلى أن يتم اختراع كمامة شفافة تنهي سيطرة «كورونا» على منطقة الفم والشفتين، فكأنهم يبحثون عن حيلة تمنع الكمامة من الوقوف في طريق فنون التجميل!
ولم يكن ذلك في مجمل معناه، سوى خطوة من خطوات الانتصار المعنوي على هذا الفيروس الجوَّال الذي لم يتعب بعد من التجول، ولا يبدو أنه يفكر في الرحيل!
لقد جاء «كورونا» ومن بين نياته أن يغير من وجه العالم، ولكنه راح يزحف من وجه العالم إلى وجه المرأة من دون وجه الرجل الذي لا يبتئس كثيراً بالتجميل ولا بفنونه، ولكن حواء تبتئس إذا غابت عنها فرشاة خبراء الموضة والجمال، وربما يكون هذا هو السبب الذي دعاهم إلى الاحتيال على «كورونا» وألاعيبه، فانسحبوا من نصف وجه المرأة على سبيل التكتيك، لا بهدف إخلائه أمام العدو الذي يحتل مساحات فيه، ولكن بغرض العودة إليه من جديد خلال أقرب مدى زمني متاح!
وليست هذه سوى إرادة الحياة لدى الإنسان، فهي أقوى من أن يهزمها مكر الوباء، حتى ولو كان قد نجح في عزل العالم بعضه عن بعض لمائة يوم وأكثر، وحتى ولو كان قد راح يفاجئ العالم بالهجوم من فوق جبهة جديدة كل فترة، فالحياة مخلوقة لتتغلب على ما يقف في طريقها، وكأنها تيار من الماء يندفع في سبيله قافزاً فوق عوائق المجرى مرة، ودائراً حولها في كثير من المرات!
لا يتوقف «كورونا» عن إظهار المكر في كل مرحلة من مراحل حياته بيننا، ولكن فطرة الإنسان تملك من المكر في المقابل، ما يجعل من مكره أمراً بلا جدوى في آخر السباق!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فطرة الإنسان التي تحتال على مكر الوباء فطرة الإنسان التي تحتال على مكر الوباء



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:01 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

البرهان يؤكد رفضه أي مفاوضات أو تسوية مع قوات الدعم السريع
  مصر اليوم - البرهان يؤكد رفضه أي مفاوضات أو تسوية مع قوات الدعم السريع

GMT 17:49 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل
  مصر اليوم - مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل

GMT 10:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
  مصر اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 09:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان
  مصر اليوم - اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:57 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يصبح أول رئيس أميركي يبلغ 82 عاماً وهو في السلطة

GMT 02:39 2019 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

رانيا محمود ياسين توضح قطع علاقتها بالبرامج التليفزيونية

GMT 09:28 2021 الأربعاء ,11 آب / أغسطس

المصري يعلن انتقال أحمد جمعة إلى إنبي

GMT 02:20 2019 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

إيمي سمير غانم تكشف عن خلاف حاد مع زوجها تحول إلى نوبة ضحك

GMT 12:25 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

طريقة عمل أصابع الجبنة بالثوم

GMT 11:17 2020 الجمعة ,25 كانون الأول / ديسمبر

محمد صلاح يتخذ أولى خطوات الرحيل عن ليفربول
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon