بقلم : سليمان جودة
ليس أغرب من الموقف الإثيوبى فى الجولة الأخيرة من مفاوضات سد النهضة فى واشنطن إلا موقف الجانب السودانى الذى حضر بالفعل، ثم لم يشأ أن يوقّع على مشروع الاتفاق النهائى!.. فكأنه من حيث النتيجة قد راح يقف مع الطرف الإثيوبى فى مربع واحد!.
وهو لم يمتنع عن التوقيع وفقط، ولكنه قال إن لديه ملاحظات وتحفظات على المشروع دون أن يكشف بالضبط عن طبيعة الملاحظات والتحفظات!.
ولا تعرف ما هى حسابات الحكومة فى الخرطوم، ولكن ما نعرفه أن موقفها كان لابد أن يأتى أقرب إلى القاهرة منه إلى أديس أبابا فى كل الحالات، ليس بحكم العلاقات بيننا وبين السودان تاريخيًا على مستواها الرسمى على الأقل، ولا بحكم ما بين الشعبين من روابط حية وممتدة وباقية، ولا حتى بحكم أن النهر الخالد كان ولايزال يتدفق من العاصمة السودانية إلى القناطر الخيرية، حاملًا بين شاطئيه ما يجمع ولا يفرق بين الدولتين.. ليس بحكم هذا كله، الذى يكفى فى سياقه بالطبع ويزيد، ولكن بحكم أننا بلد مصب، لا بلد منبع مثل إثيوبيا، وأن السودان مثلنا بالتمام بلد مصب أيضًا.. وبالتالى فما هو مشترك حاضر وقائم!.
وقد تخيلت وأنا أتابع غياب المفاوض الإثيوبى، الذى بدا غيابه أمرًا مقصودًا، أن المفاوض السودانى فى المقابل سوف يعرّى مبررات هذا الغياب، وأنه سيضع توقيعه إلى جانب التوقيع المصرى، فيظهر المفاوض الغائب على حقيقته أمام الوسيط الأمريكى وأمام المجتمع الدولى على السواء!.
وليس سرًا أن البيان الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية، التى جرت المفاوضات بحضور وزيرها مع مدير البنك الدولى منذ اللحظة الأولى، قد وصف مشروع الاتفاق النهائى بأنه متوازن وعادل، وأنه يراعى الاستخدام المنصف لماء النيل بين الأطراف الثلاثة، وأنه يستند إلى المبادئ الأساسية الواردة فى اتفاق المبادئ الموقّع فى الخرطوم ٢٠١٥ بحضور رؤساء الدول الثلاث!.
هذا باختصار ما صدر عن الوزارة الأمريكية، وهذا فى ظنى هو ما دفع المفاوض المصرى إلى التوقيع بالأحرف الأولى، واضعًا كل طرف غائب أو متحفظ أمام مسؤوليته!.
إننى أبحث طول الوقت عن مبرر معقول يجعل الطرف السودانى يمتنع عن التوقيع، فلا أعثر على شىء، وأبحث عن سبب يجعله أقرب إلى الطرف المتعنت منه إلينا، فلا أقع على شىء مقنع، وأبحث عن شىء يجعل وزير الرى السودانى يخرج من إحدى جولات التفاوض مبتسمًا ومصطفًا إلى جانب الوزير الإثيوبى، فلا يسعفنى البحث بشىء له قيمة!.
الخرطوم فى أشد الحاجة إلى شرح، وبيان، وتفسير، لعلها تبدد هذا الغموض كله، ولأن المربع الذى وقفت فيه، خصوصًا فى الجولة الأخيرة، ليس هو المربع الذى تسوقها إليه وقائع التاريخ وحقائقه!.