بقلم: سليمان جودة
المباراة التي دارت وتدور بين الولايات المتحدة والصين، منذ أن عرف العالم شيئاً اسمه فيروس «كورونا»، هي مباراة عقلية بقدر ما هي مباراة سياسية بين خصمين يتصارعان، أيهما يكون في الموقع الاقتصادي العالمي الأول!
هي مباراة عقلية لأن كل طرف منهما يحاول الفوز على الآخر منذ اللحظة الأولى، بالنقاط وليس بالضربة القاضية، ولذلك، لا يكاد يوم يمر إلا ويكون أحدهما قد أحرز هدفاً في مرمى الآخر. ولأن واشنطن أغنى في تجارب الصراع والمنافسة، فهي تنتقل في كل نهار من مربع إلى مربع آخر، ووراءها تسعى وتجري الصين، فكأن الولايات المتحدة هي صاحبة الفعل، وكأن الحكومة الصينية هي التي من نصيبها رد الفعل!
وتتصرف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الملعب، كأنها الحاوي الذي لا يخلو جرابه من كل جديد، والذي يستطيع أن يدس إحدى يديه في كُم اليد الأخرى، فيسحب الكتاكيت ببراعة مرة، ويسحب من الغرائب ما يلفت انتباه المتحلقين حوله مرة ثانية!
وعلى نحو ما، تشعر وأنت تتابع وقائع المباراة على الجانب الأميركي بالذات، أن أعضاءه يوزعون أدوار اللعبة بينهم مع الجانب الصيني، كأنهم عازفون في فرقة من فرق الأوركسترا، التي يعزف كل عضو فيها ما يكمل عمل الطرف الآخر ويتسق معه!
وإذا كان هذا هو ما يميز الطرف الفاعل في العاصمة الأميركية، فما يميز الطرف الثاني في العاصمة بكين هي اليقظة اللافتة التي تراقب وترصد ثم تحلل، ولا تجعل شيئاً يفوت من دون أن يكون للصين فيه رأي واضح، ومعلن، ومشروح!
ثم تشعر بشيء آخر أهم، هو أن وراء عزف الأوركسترا الأميركية هدفاً في آخر الطريق تسعى إليه، وأن هذا الهدف يشبه الثوب الذي ينسج صاحبه فيه خيطاً ويصنع خيوطاً كل صباح، حتى إذا حان موعده بين الثياب كان قد اكتمل وصار ثوباً كامل الأركان!
وفي مرحلة من مراحل مسيرة العالم مع الفيروس، كان الخيط الذي تحاول الإدارة الأميركية صناعته في هدوء وتصميم، هو مدى مسؤولية الحكومة في الصين عن ظهور الوباء على أرضها، ثم مدى مسؤوليتها عن انتشاره في أرجاء الدنيا بغير مبالاة. وكانت الإدارة نفسها تبدو في الكثير من الحالات كأنها تقول الشيء وعكسه في القضية ذاتها، ولم تكن كذلك في حقيقة الأمر، ولكنها كانت تريد أن تضع الصين في منطقة رمادية، تكون فيها أقرب إلى الإدانة منها إلى سواها!
ولأن القصة بينهما ذات مراحل، فالمرحلة الجديدة التي ذهبت إليها واشنطن هي تحميل بكين المسؤولية، ليس فقط عن نشر «كورونا» في أرجاء الأرض، فهذه مرحلة مضت وانقضت، ولكن تحميلها المسؤولية عن تعويض الشعوب التي عانت ولا تزال تعاني من جراء وصول الفيروس إلى أرضها. وحين تصل المباراة إلى هذه المرحلة من مراحلها، فأنت أمام إدانة مؤكدة للصينيين، على الأقل من الناحية المعنوية، لأنه لا يوجد شعب على ظهر الكوكب، إلا وأصابه من الفيروس الشيء القليل أو الكثير، ولا يوجد شعب من هذه الشعوب إلا وسوف يتحمس بالتأكيد للحصول على تعويض ممن أصابوه بوباء أغلق كل باب من أبواب الحياة!
ولم تكن هذه هي المرحلة الأخيرة، لأن مكر الحاوي يجعله جاهزاً على الدوام، لإخراج ما لا يتوقعه الذين يتحلقون ويشاهدون ويندهشون!
ولأنها لم تكن المرحلة الأخيرة في مباراة، هذه هي طبيعتها منذ انطلاق صافرة البداية، ولأن هذه هي طريقة الفوز فيها عند آخر الأشواط، فلقد جاءت مرحلة تالية كان الاتهام المعلن على ساحتها، هو أن عملية من عمليات القرصنة تجري صينياً تجاه أميركا، وأن الذين يقومون بها علماء صينيون على درجة من عالية من المهارة، وأن الغرض هو سرقة أسرار اللقاحات التي يسهر عليها علماء أميركيون، لعل الأمل في الوصول إلى لقاح يتجسد في حقيقة تنقذ الملايين من البشر!
وفي هذه المرحلة من مراحل الصراع، تظهر الصين أمام الرأي العام في العالم، ليس على أنها مسؤولة عن انتشار الوباء وحسب، ولكن على أنها تتحرى كل طريقة ممكنة للسطو على جهود ومحاولات آخرين في التوصل إلى دواء يعالج هذا الداء!
وهكذا تكتشف الصين أنها أمام قضية مركبة، وتجد نفسها مدعوّة للمثول أمام محاسبة على عدة جرائم معاً، لا على جريمة واحدة ولا على جريمتين. مدعوّة أميركياً للوقوف أمام محاسبة على أنها تسترت على ظهور الوباء عند بدايته، وقد كان عدم التستر وقتها كفيلاً بمحاصرة «كورونا» عند المهد، ومدعوّة للمحاسبة لأنها فعلت ذلك تواطؤاً مع منظمة الصحة العالمية، وفق الرواية الأميركية التي لا تزال تفتقر إلى الدليل. مدعوّة إلى ذلك لأنها تتخلى عن مسؤوليتها تجاه تعويض الذين لحق بهم الضرر الوبائي، ولأنها تجاهد للقرصنة على جهود العلماء الأميركان في سباق التوصل لعلاج ينهي هذه المأساة العالمية!
إن وقتاً طويلاً سوف يمر قبل أن نصل إلى إجابات شافية عن التساؤلات الحائرة، التي تثيرها الإدارة الأميركية الحالية حول بداية ظهور «كورونا»، وما إذا كان قد انطلق من مختبر أم من الطبيعة! وسوف يمضي وقت أطول قبل أن نعرف ما إذا كان التواطؤ قد جرى بالفعل بين منظمة الصحة العالمية وبين السلطات في الصين! ولكننا في الطريق إلى الحصول على هذه الإجابات، لن نكون في حاجة إلى بذل جهد كبير ندرك من خلاله أن الوباء بقدر ما أوجع اقتصادات الكثير من دول العالم بقدر ما راح يتحول هو نفسه مع مرور الوقت إلى أرضية جاهزة تجري عليها عمليات لتصفية حسابات قديمة بين الطرفين مرة، ثم عمليات من الاستعداد لقطف ثمار ناضجة في المستقبل مرة أخرى!
ومن بين هذه الثمار أن يتحول المارد الصيني من خصم اقتصادي للولايات المتحدة وحدها في زمن ما قبل «كورونا»، إلى عدو للعالم كله أو أغلبه في زمن ما بعد «كورونا»!
ولمادا لا يكون عدواً وهو الذي أنتج الفيروس في مختبر، وهو الذي تواطأ مع المنظمة المعنية بقضية الصحة عالمياً، لإخفاء ولادة «كورونا» في لحظته الأولى، وهو الذي مارس القرصنة على جهود إنتاج مصل يقي من الإصابة ويداوي المصاب؟!
القصة هذه المرة ليست ككل مرة ظهر فيها وباء من الأوبئة التي ظهرت من قبل، ثم استغرقت وقتها وانحسرت، ولكن القصة تبدو محيّرة، وتبدو غير مفهومة في الكثير من جوانبها، وتبدو ممتلئة بعلامات استفهام في أكثر من موضع من مواضعها، وتبدو على قدر من الغموض لم يعرفه أي وباء سابق!
وتستطيع أن تقول إن نتيجة المباراة حتى الآن، هي التعادل في إحراز الأهداف، وأن عجز إدارة ترمب عن السيطرة على الوباء على أرضها، وهو ما لا يليق بسمعة دولة عظمى، يقابله عجز إدارة الرئيس الصيني شي جينبينغ، عن إثبات أن حكومته لم تتستر ولم تتواطأ، وأن هدف الفوز لا يزال مؤجلاً إلى حين، وأنه ربما يحتاج إلى وقت بدل ضائع يضاف بعد انحسار الوباء إلى زمن المباراة!