توقيت القاهرة المحلي 05:01:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مشهد لا يتسق مع تاريخ فرنسا القريب

  مصر اليوم -

مشهد لا يتسق مع تاريخ فرنسا القريب

بقلم: سليمان جودة

تاريخياً كانت فرنسا ترى نفسها الدولة الأهم في أوروبا، وكانت ترى ذلك وهي مدفوعة بأفكار رجلين في تاريخها القريب، أما الأول فكان نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر، وأما الآخر فكان شارل ديغول في القرن العشرين.

وقد كانت ترى نفسها الدولة القائدة في القارة لا الدولة الأهم فقط، لأن الأهمية يمكن أن تقترن بالقيادة ويمكن ألا تقترن، وربما كان هذا هو الذي راح يغذي إحساساً عميقاً لديها، بأنها هي التي لا بد أن يشار إليها على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي، إذا كانت الإشارة على شاطئه الغربي من حظ الولايات المتحدة الأميركية في المقابل ومن نصيبها معاً.

وكانت القيادة في نظرها تعني أن تقود نفسها، ثم القارة العجوز من ورائها، إلى شيء من الاستقلالية عن السياسة الأميركية. كانت ترى ذلك إذا فاتها أن تقود في الحالتين من أجل الاستقلالية كلها لا مجرد بعضها، وقد كانت تنجح في ذلك مرات كثيرة، وكانت تخفق في بعض المرات.

وعندما جاء الرئيس إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه، فإن مجلة «تايم» الأميركية أيقظت هذه المعاني كلها في داخله، وكان ذلك عندما وضعت صورته على غلافها، لا بوصفه شخصية السنة في العالم كما تفعل في العادة، ولكن بوصفه «الرجل القادم في أوروبا» على حد تعبيرها، وهي تقدمه إلى الذين لم يكونوا يعرفونه وقتها.

وكان هو من ناحيته جاهزاً لذلك ومستعداً، فتصرف على هذا الأساس طوال ولايته الرئاسية الأولى، ثم واصل التصرف نفسه في ولايته الثانية الحالية التي تنتهي في 2027.

وعندما بدا أن اليمين السياسي المتشدد يتقدم في فرنسا بزعامة مارين لوبان، وأنه يمكن أن يحوز النسبة الأعلى في انتخابات البرلمان التي جرت جولتها الأولى بداية الأسبوع، فإن ماكرون ظهر منفعلاً وهو يقول إنه باقٍ في الإليزيه إلى نهاية الولاية الثانية. ولا أحد يعرف لماذا انفعل في حديثه إلى هذه الدرجة؟ ولكن الغالب أن انفعاله كان راجعاً إلى إحساسه بأنه جاء منذ البداية ليقود قارة لا دولة، وأنه ليس هو الذي يمكن أن يهدد بقاءه تقدم اليمين المتطرف.

ولأن الملامح النهائية لصيغة الحكم بين حزب «معاً من أجل الجمهورية» الذي يقوده الرئيس، وحزب «التجمع الوطني» الذي تقوده مارين، لم تتضح بالقدر الكافي بعد، فهذه قضية مؤجلة مؤقتاً، أما القضية غير المؤجلة فهي هذا التغيير الذي طرأ على الروح الفرنسية السياسية، فجعل اليمين المنغلق يتقدم في الحظوظ الانتخابية فيحصل على ثلث الأصوات، بينما الانفتاح الذي يمثله حزب ماكرون يتراجع ويتأخر!

لقد جاء وقت على فرنسا كانت فيه هي التي قادت انفتاحاً ليس فقط على مستوى أوروبا وحدها، وإنما على امتداد حوض البحر المتوسط كله، وذلك وقت كان الرئيس نيكولا ساركوزي سيداً يحكم في الإليزيه.

وقتها سعى ساركوزي في التأسيس للاتحاد من أجل المتوسط، الذي نشأ في 2008 بقيادة مشتركة بين باريس والقاهرة، وكان الاتحاد تجربة سياسية فريدة من حيث الرغبة في أن يكون حوض المتوسط أفقاً للتعاون بين دول شمال البحر ودول الجنوب، وما لبثت الصيغة أن اتسعت لتستوعب دول القارة الأوروبية كلها مع دول الشاطئ الجنوبي للبحر.

والذين تابعوا نشأة الاتحاد في حينه، وأسعدهم أن تكون هذه هي أهدافه، أو أن يكون هذا هو الميدان الواسع الذي يلعب فيه أعضاؤه من الجانبين، لا يستوعبون هذا التحول الذي يكاد ينتقل بالاتحاد على يد اليمين المتطرف الزاحف، من باب مفتوح بين شمال البحر وجنوبه، إلى نافذة مغلقة لا تسمح بالتواصل ولا بالتعاون.

كان من الوارد أن يتقدم مثل هذا اليمين في ألمانيا مثلاً، وكان المبرر الجاهز عند تقدمه على أرضها، أن فيها حزباً اسمه «البديل من أجل ألمانيا»، وأنه حزب لا يتصور وجوداً لغير الألمان على الأراضي الألمانية ولا في أوروبا نفسها، وقد كان ولا يزال يواجه مقاومة من بقية الألمان الذين يجدونه مخاصماً لروح العصر.

كان من الجائز أن يتقدم مثل هذا اليمين في أي بلد أوروبي، إلا أن يكون هذا البلد هو بلد فولتير الذي عاش يقاتل من أجل فكرة الحرية في العلاقات بين الدول والأفراد معاً. لقد بنى فولتير بيته على الحدود الفرنسية - السويسرية. وكان فولتير قد أمضى حياته متنقلاً بين حدود البلدين، كأنه أراد أن يقول إنه لا شيء يجب أن يعوق حركة الناس بين الدول، ولا أن يقف في طريق حرية هذه الحركة.

كان من الجائز أن يتقدم اليمين المتشدد في أي بلد، إلا أن يكون هذا البلد هو فرنسا، وإلا فإنها تخون مبادئ فولتير ولا تقيم لها الاعتبار الواجب، فضلاً عن أنها تبدو كأنها خارج سياق تاريخها القريب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مشهد لا يتسق مع تاريخ فرنسا القريب مشهد لا يتسق مع تاريخ فرنسا القريب



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 20:45 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025
  مصر اليوم - مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 14:08 2018 السبت ,21 إبريل / نيسان

اختاري كوشات أفراح مبتكرة في موسم صيف 2018

GMT 01:35 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

عبد الله السعيد يفجر المشاكل بين كوبر وأبوريدة

GMT 00:43 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

تشيلسي الإنجليزي يستقرّ على بديل أنطونيو كونتي

GMT 10:07 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

عفو رئاسي من السيسي عن متهمة في قضية شهيرة

GMT 12:49 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

النني ينعش خزينة الأهلي ب81 ألف جنيه استرليني

GMT 01:58 2017 الأحد ,03 كانون الأول / ديسمبر

صورة الفنانة شادية قبل وفاتها تبكي محبيها

GMT 08:06 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

هند صبري سعيدة بجائزة فاتن حمامة وتبرز معادلة نجاحها الصعبة

GMT 23:51 2016 الأربعاء ,08 حزيران / يونيو

فوائد العناق بين الزوجين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon