توقيت القاهرة المحلي 07:52:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مطرودتان من القارة السمراء

  مصر اليوم -

مطرودتان من القارة السمراء

بقلم: سليمان جودة

كانت القارة السمراء على موعد في هذا الأسبوع مع امرأتين، وكانت المفارقة أن الموعد مع السيدتين كان في توقيت واحد، ورغم أن واحدة منهما جاءت إلى القارة من شمالها، ورغم أن الأخرى جاءت من شرقها، فإن مصيرهما كان واحداً في النهاية.
كانت المرأة الأولى هي السيدة إيستر لنش، أمين عام اتحاد النقابات الأوروبية، وكانت قد ذهبت في زيارة إلى تونس الخضراء، فغادرتها مطرودة بقرار من الرئيس التونسي قيس سعيد. وقد أمهلها الرجل 24 ساعة لتغادر خلالها بلاده، فكان لا بد أن تغادر إلى بلدها، لأن ما لجأ إليه سعيد في تعامله معها، هو مبدأ مستقر في التعامل السياسي بين الدول.
وكان السبب في قرار الإبعاد أنها شاركت في مظاهرة سياسية مع عدد من التونسيين، وأنها رددت معهم شعارات اعتبرتها الحكومة التونسية معادية للبلاد. ولم تجد السيدة نجلاء بودن، رئيسة الحكومة في تونس مفراً من الإعلان عن أن أمين عام اتحاد النقابات الأوروبية: شخص غير مرغوب فيه.
وهذه العبارة الأخيرة مصطلح متعارف عليه بين شتى العواصم، وبالذات على المستوى الدبلوماسي، وهو يمنح أي عاصمة الحق في أن تطلب من أي شخص أجنبي مغادرتها على الفور، وتمارس عواصم العالم هذا الحق مع الدبلوماسيين في العادة، ولا تعني عبارة «على الفور» أن على الدبلوماسي غير المرغوب فيه أن يسافر في نفس اللحظة، ولكنه يحصل في العادة على مهلة زمنية يغادر قبل انتهائها. ومن الواضح أن إيستر لنش دبلوماسية في الأساس، أو أنها شيء من هذا القبيل، وإلا ما كانت الحكومة التونسية قد تصرفت معها بهذه القاعدة الدبلوماسية المستقرة. إن الصيغة التي قيلت لها في طلب المغادرة تتعامل معها معاملة الدبلوماسيين غير المرغوب في بقائهم، ومن الصيغة تشعر بأن السيدة الأوروبية ارتكبت من السلوكيات ما لا يمكن احتماله سياسياً.
وقد جاءها طلب المغادرة بتوجيهات مباشرة من رأس الدولة التونسية في قصر قرطاج، وليس من الحكومة في قصر القصبة، ولا حتى من وزارة الخارجية المختصة في مثل هذه الحالات.
كان هذا ما حدث مع لنش التي عبرت البحر المتوسط من شماله إلى جنوبه، والتي دخلت القارة من شمالها، فكان عليها أن تفعل العكس، وأن تعبر من جنوب المتوسط إلى شماله، وأن تقوم برحلتها العكسية هذه في خلال يوم واحد لا يزيد.
وعلى الجانب الآخر كانت الدبلوماسية الإسرائيلية شارون بارلي، قد جاءت من تل أبيب تحضر أعمال القمة 36 للاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، وكانت القمة قد انعقدت يومي الثامن عشر والتاسع عشر من هذا الشهر، وما كادت أعمالها تبدأ في اليوم الأول، وما كادت بارلي تستقر في مقعدها داخل القاعة التي انعقدت فيها أعمال القمة، حتى جاء مَنِ اصطحبها إلى الخارج، وأفهمها أنها ممنوعة من الحضور، وأن هذا قرار لا نقاش فيه ولا رجعة، فلم تملك سوى أن تغادر.
ولا يُعرف ما هي علاقة الدولة العبرية بقمة يدعو إليها الاتحاد الأفريقي، ولا تحضره بحكم طبائع الأمور إلا الدول الأعضاء فيه، أو الدول غير الأعضاء التي تتلقى دعوة من الاتحاد.
وإذا كان موسى فقي، رئيس المفوضية الأفريقية، قد منح إسرائيل بقرار منفرد منه عضوية مراقب في السنة قبل الماضية، فهذا لا يعطيها حق حضور قمم الاتحاد، ولا يجعلها تجلس إلى جوار أي دولة من دول القارة السمراء سواءً بسواء.
وحتى لو كان قد منحها تلك العضوية في وقتها، بحكم موقعه على رأس المفوضية، فالدول الأفريقية كانت قد علقت قراره في السنة التالية، وكان على الحكومة في تل أبيب أن تحترم قرار التعليق، وأن تفهم «الرسالة» التي كان يحملها، وألا تضع نفسها ومندوبتها في هذا الموقف السياسي شديد الحرج الذي وجدت نفسها فيه، والذي وضعها في موقع لا تحبه ولا ترضاه.
وليس معروفاً على أي قاعدة بالضبط، قرر فقي منح إسرائيل هذه العضوية، ولكن مما حدث في القمة مع الدبلوماسية الإسرائيلية، يتبين لنا أن قراره كان ضد رغبة الغالبية من دول القارة، بل كان ضد رغبة دول القارة كلها، لأننا لم نسمع أن دولة من الدول التي حضرت القمة، قد اعترضت على قرار إخراج بارلي من القاعة، ولا سمعنا أن دولة أفريقية واحدة قد تحفظت على قرار طردها.
إننا لا نعرف أن إسرائيل دولة أفريقية، ولا نعرف عنها أنها متعاطفة مع قضايا القارة، ولا هي أبدت هذا التعاطف في أي يوم.
وما جرى مع لنش في شمال القارة وقع مع بارلي في جنوب شرقها، وكان على الدبلوماسية المطرودة أن تغادر هي الأخرى، وأن تخرج من شرق القارة إلى بلادها، وأن تفعل ذلك أيضاً في خلال يوم واحد؛ لأن أعمال القمة لم يكن يتبقى منها سوى هذا اليوم.
ومن الصعب أن نتصور أن رحلة لنش إلى تونس كانت لمجرد الظهور مع عدد من التونسيين في مناسبة عامة، حتى ولو كانت هذه المناسبة حشداً من نوع ما ظهرت هي فيه، ثم رددت مع الموجودين ما كانوا يرددونه اعتراضاً على سياسات يأخذ بها الرئيس قيس.
ومن الصعب في المقابل أن نتخيل أن بارلي طارت إلى العاصمة الإثيوبية، لمجرد الرغبة في حضور قمة من قمم الاتحاد الأفريقي، ثم ينتهي الأمر معها عند هذا الحد.
هذا صعب في الحالتين، لأن الرحلتين هما في الحقيقة عنوان لموضوع كبير، وهذا الموضوع هو ثروات القارة السمراء، وهو السباق على النفوذ في القارة، وهو الصراع على الوجود فوق أرضها، وهو اكتشافها الذي جاء متأخراً، إلا أنه في النهاية جاء، وهو يتبدى أمامنا في أكثر من صورة، ويتجلى في أكثر من مشهد، وتتجدد الصور والمشاهد على مرأى منا في كل يوم.
وقد مر علينا كثير من الصور والمشاهد المماثلة من قبل، ورأينا فيها كيف بدت أفريقيا وكأنها تظهر على خريطة العالم للمرة الأولى، أو كأن العواصم الطامحة والطامعة في الثروات، إنما تدرك للمرة الأولى أن في الدنيا قارة اسمها أفريقيا.
وقبل أيام كان سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، يطير بين أكثر من دولة من دول القارة، وكان يتنقل من السودان في أقصى الشرق الأفريقي، إلى المغرب في أقصى الغرب، وكان يبدي دهشته وهو في الخرطوم، من أنه وجد في انتظاره ستة مبعوثين غربيين يزورون العاصمة السودانية، وكأنهم يلاحقون بلاده ويطاردونها في كل مكان تذهب إليه.
وفي غمار مشهد عام كهذا، وربما في غباره المتناثر، لا يمكن النظر إلى رحلة لنش إلى تونس إلا على سبيل أنها جزء منه في مجمله، ولا كذلك يمكن النظر إلى رحلة بارلي إلى أديس أبابا إلا في السياق نفسه الذي يرسم صورة لأفريقيا لم نعهدها في كل سياق سابق.
أفريقيا تبدو في غمرة الصراع عليها، وكأنها «الجائزة الكبرى» التي كنا نسمع ونقرأ عنها في أيام ما يسمى «الربيع العربي»، ولكننا في أيام الربيع كنا نتحدث عن دولة هنا أو هناك، بوصفها الجائزة الكبرى في نظر الذين كانوا يشعلون ناره في منطقتنا، أما في حالتنا الراهنة فالجائزة قارة تضم 54 دولة وليست دولة واحدة.
العالم يتكالب على القارة السمراء ويعيد اكتشافها، ولكنها في المقابل لم تعرف بعد كيف تكتشف نفسها، ولو أنها فعلت ذلك ما كان رئيس الاتحاد الأفريقي السابق قد ناشد الرئيس بوتين ألا يقف في طريق تصدير الحبوب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مطرودتان من القارة السمراء مطرودتان من القارة السمراء



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon