توقيت القاهرة المحلي 20:18:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قضية أتلفها الهوى!

  مصر اليوم -

قضية أتلفها الهوى

بقلم: سليمان جودة

عادت قضية حقوق الإنسان إلى الظهور في المنطقة من جديد، وكانت عودتها متوقعة مع مجيء الديمقراطيين إلى البيت الأبيض في العشرين من الشهر قبل الماضي.
كانت متوقعة لأنها كانت أداة واضحة من بين أدواتهم في الحكم، وكان ذلك وقت أن قضوا ثمانية أعوام في السلطة مع إدارة الرئيس أوباما من 2008 إلى 2016، وكانوا طوال تلك السنوات الثماني لا يتوقفون عن إثارة هذه القضية، كلما كان عليهم أن يخاطبوا عاصمة مهمة من عواصم المنطقة. كانوا يثيرونها باستمرار ليس عن إيمان حقيقي بها كما قد يتصور أصحاب النيات الطيبة بيننا، ولكن عن رغبة في ممارسة أنواع من الضغوط على حكومات بعينها في الشرق الأوسط.
ويمكن رصد هذه العودة في ملمحين اثنين؛ أحدهما الاتصال الهاتفي الذي جرى بين أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، وسامح شكري، وزير الخارجية المصري، وثانيهما تقرير الاستخبارات الذي جرى نشره عن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي!
في المرتين كان العنوان هو حقوق الإنسان، وكانت تحت العنوان تفاصيل، وكانت «الرسالة» أن المكالمة بين الوزيرين دليل على ذلك، وكذلك التقرير الاستخباراتي الذي دار حوله صخب كثير!
وحقيقة الأمر أن من كتب هذا التقرير مدعوّ إلى تقديم «أمارة» على أن حقوق الإنسان في هذه المنطقة من العالم تؤرقه إلى هذا الحد، وأنه منزعج لمستوانا الحقوقي هذا الانزعاج، وأنه معني بهذه القضية على النحو الذي يريد هو تصويره لنا في أكثر من مناسبة.
من حُسن الحظ أن القضاء في الرياض تولى القضية منذ يومها الأول، وأن أسرة الصحافي الراحل قد تدخلت في الأمر بما يسمح بقطع الطريق على كل الذين فكّروا منذ الوهلة الأولى في «استخدام» القضية، ثم في إثارتها من وقت إلى آخر على سبيل الابتزاز السياسي للسعودية لا أكثر.
ومن حُسن الحظ أن إعادة بعث قضية الرجل قد وجدت ما يجب من رد في بيان الخارجية السعودية الذي صدر في 26 فبراير (شباط)، والذي سجّل في عباراته الواضحة أن «استنتاجات خاطئة» جرى التوصل إليها في التقرير، من دون أن تكون للاستنتاجات مقدمات منطقية تجعل القارئ يقتنع بها ويراها في سياقها الصحيح. لم يحدث هذا في التقرير المنشور، ولم يشأ كاتب التقرير أن يبني مقدمات على نتائجها، ولكنه قفز إلى استنتاجاته بشكل مباشر، الأمر الذي جعل التقرير يبدو كأنه بيت يقوم على غير قواعده!
وهذا ما يعيدنا إلى ما أشرت إليه في بداية هذه السطور، فقضية حقوق الإنسان يجري توظيفها مرات كثيرة من جانب بعض الإدارات الأميركية عند التعامل مع عدد من العواصم في المنطقة، وخصوصاً عواصمها المهمة ذات التأثير والفاعلية. ويستطيع كل واحد فينا أن يرصد حقوق الإنسان وهي تتحول بسهولة إلى لافتة عريضة إذا ما رغبت جهة ما في ممارسة ضغطها السياسي على عاصمة هنا أو عاصمة هناك، ثم وهي تصبح مجرد قناع يجري ارتداؤه من وقت إلى وقت لأسباب تبدو مكشوفة في الكثير من الحالات!
ورغم أن الحكاية تبدو مكشوفة في كل مرة، فإن هذه الإدارة أو الجهة لا تنتبه إلى أن ما تحاوله يظهر عرياناً أكثر مما يستره أمام الناس قبل الحكومات في المنطقة.
إحياء القضية لم يكن لينطلي طبعاً على الحكومة في المملكة، وإذا شئت دليلاً فارجع إلى بيان الخارجية المشار إليه، الذي وضع محاولة الإحياء في سياقها الذي يجب أن توضع فيه، ثم مضى سريعاً إلى طبيعة العلاقة بين العاصمتين، واشنطن والرياض، وإلى أن ما يقال في التقرير من استنتاجات خاطئة، لا يتسق مع هذه الطبيعة في العلاقة ولا يتماشى معها! وإذا شاء من كتب تقرير الاستخبارات الأميركية، فإن عليه أن يقرأ بيان الخارجية السعودية جيداً، وبمعنى آخر يقرأ ما بين سطوره فضلاً عن سطوره نفسها، لعله يرى أن الحديث من جانبه عن حقوق الإنسان في منطقتنا لا بد أن يكون حديثاً عن بلاده هي فعلاً، لا عن أشياء أخرى غير مباشرة وراءه، ولعله يرى أن أحاديث حقوق الإنسان لا قيمة لها ولا وزن إذا لم تتجرد من الهوى السياسي الذي يرافقها فيفرغها من أي مضمون.
إنني مستعد لتصديق الحديث عن حقوق الإنسان، إذا ما تبين لي ولغيري أنه حديث عن حقوق إنسان بالفعل، لا عنها بوصفها تكئة تتساند إليها أي جهة للوصول إلى شيء آخر من خلالها، ولا عن حق واحد من حقوق الإنسان وفقط!
مستعد لتصديقها إذا ظهر لي ولغيري أن حق الإنسان في التعليم يعنيها، وأن حقه في الصحة يهمها، وأن حقه في السكن الآدمي يقضّ مضجعها، إلى باقي السلسلة، والتي لا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا حظي بها مكتملة.
لم يحدث من قبل أن جرى ضبط أي جهة أميركية، وهي متلبسة بالاهتمام بحقوق الإنسان بهذا المعنى الشامل، فحقوق الإنسان لدى الإدارات المتعاقبة جميعاً كانت هي الحق في حرية التعبير ولا شيء آخر. صحيح أن هذا الحق أساسي بين الحقوق كلها، وصحيح أنه لا يجوز التفريط فيه، ولكن الاهتمام به وحده، والتركيز عليه بمفرده، لا بد أن يكون محل تساؤل عن السبب أو عن السر وراء هذا الاجتزاء المخلّ الذي يكشف عن اهتمامٍ بالقضية الحقوقية وراءه غرض.
حقوق الإنسان وحدة واحدة، وهي إما أن تؤخذ كلها على يد المهتم بها أياً كان أو أن تُترك كلها، ولا منطقة في الوسط في الموضوع. وحين يؤخذ حق منها من دون سائر الحقوق، ثم تتركز عليه الكاميرات كما في حالة تقرير الاستخبارات هذا، فالمؤكد أن الأمر ليس بحثاً عن حقٍّ ضائع، ولا الأمر من أجل حقوق الإنسان كقضية، ولا حتى هو لوجه الله، ولكنه ستار لشيء آخر يراه المتابع ويفهمه بلا جهد.
إذا جرّب مراقب موضوعي أن يجرد تقرير الاستخبارات من الهوى، فلن يتبقى فيه لحقوق الإنسان بمعناها الحقيقي شيء، ولن يصمد أمام أي تقييم يفصل فيه بين ما هو سياسي وما هو حقوقي، ولن يكون له مكان بين التقارير التي لا تنحرف عن قضيتها إلى أرض أخرى مغايرة.
حقوق الإنسان هي قضية القضايا منذ أن تعارف عليها الناس، ولكن الهوى السياسي أتلفها في الكثير من الأحيان، وفي هذا التقرير الاستخباراتي على وجه الخصوص!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قضية أتلفها الهوى قضية أتلفها الهوى



GMT 05:26 2022 الأربعاء ,17 آب / أغسطس

حول التعديل الوزارى

GMT 19:15 2022 الأربعاء ,20 تموز / يوليو

هل بقيت جمهوريّة لبنانيّة... كي يُنتخب رئيس لها!

GMT 02:24 2022 الخميس ,09 حزيران / يونيو

لستُ وحيدةً.. لدىّ مكتبة!

GMT 19:37 2022 الأحد ,05 حزيران / يونيو

البنات أجمل الكائنات.. ولكن..

GMT 01:41 2022 السبت ,04 حزيران / يونيو

سببان لغياب التغيير في لبنان

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:36 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الأمير الحسين يشارك لحظات عفوية مع ابنته الأميرة إيمان

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 13:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 12:19 2018 الإثنين ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مصر تحصد 31 ميدالية متنوعة مع ختام بطولتي الرماية

GMT 13:55 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

الهلال يستضيف الزمالك في ليلة السوبر السعودي المصري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon