بقلم: سليمان جودة
لا يزال هذا الشهر الأول من السنة هو شهر تونس بامتياز، فمن عشر سنوات انطلق منها ما يسمى الربيع العربي، وعلى امتداد السنوات العشر بدت تونس باحثة عن طريق تتملس خطواتها عليه بشق الأنفس، ثم بدت راغبة في الوصول إلى شاطئ عليه تستقر فيه!
والذين يتأملون حال تونس الخضراء هذه الأيام، سوف يلاحظون أن معالم الإرهاق تتناثر على وجهها بما يكفي، وأن ملامح الإعياء تتجلى في مواضع من جسدها العام بما لا يحتاج إلى جهد لمتابعته.
وعندما شهد أول الأسبوع عدداً من الاحتجاجات في ثلاث ولايات، وعندما سقط فيها جرحى، وعندما ألقى البوليس بعضاً من المحتجين وراء الأسوار، لم يكن ذلك كله جديداً في نوعه، لأن السنة كلها كانت ممتلئة باحتجاجات فئوية لم تكن تهدأ إلا لتنشط من جديد.
وقد كانت الاحتجاجات ذات طابع اقتصادي في الغالبية من مطالبها ودوافعها، وكان الذين خرجوا فيها يطلبون العيش الكريم أكثر مما يتحدثون عن الحريات السياسية، وكانوا يحتجون ولسان حالهم يقول إن عشر سنوات من عمر الثورة لم تغير من الأمر في شيء، وإن مسيرة السنوات العشر إذا كانت قد غيّرت في شيء، فالتغيير لم يكن على قدر سقف التوقعات لدى الناس!
ومن الواضح أن الرئيس قيس سعيد يعرف ذلك ويراه، ولم يكن حديثه بعد اجتماع له قبل أسابيع مع قادة الجيش، عن عشر سنوات من الحكومات الفاشلة، وعن أطراف في غرف مظلمة تحاول دفع البلد إلى المجهول، وعن أطراف أخرى تشده نحو الفوضى، سوى إقرار من صاحب السلطة الأعلى في قصر قرطاج، بواقع مؤلم تعيشه الغالبية من المواطنين في بلد الحبيب بورقيبة.
ولكن المشكلة في حديث الرئيس، أن رعاياه قد ينتظرون منه كلاماً من نوع ما صدر عنه، وقد ينتظرون إقراراً على لسانه من نوع ما أقر به. غير أنهم يتوقعون منه في اللحظة نفسها أن يبادر فيغيّر من شأن ما يتحدث عنه، وأن يبدله إلى ما هو أفضل منه!
وسوف يتبين لك وأنت تتابع ما يجري منذ أن جاء الرئيس إلى القصر، أنه فوجئ بواقع سياسي لم يكن يتوقعه، ولا كان يتخيل أنه واقع سياسي حاكم إلى هذا الحد المزعج!
الواقع السياسي يقول إن دستور ما بعد ثورة الياسمين يقيد رئيس البلاد، أكثر مما يعطيه من القدرة على التصرف واتخاذ القرار الذي يراه في صالح الناس، فهو دستور يجعل رئاسة البلاد أقرب إلى الموقع الرمزي، منه إلى الموقع الفاعل في الحياه السياسية كلها.
وإذا كان الذين وضعوا الدستور فيما بعد الثورة، قد قصدوا الوقوف في طريق تخليق سلطة مطلقة من نوع ما كان الرئيس زين العابدين بن علي يعمل في ظلها، فلقد تبين لهم بالتجربة أن التأسيس لنظام حكم شبه برلماني، كما يوصف النظام الحالي في بعض الأحيان، أو نظام شبه رئاسي كما يوصف في أحيان أخرى، قد عطل العمل بين الحكومة وبين الرئيس أكثر مما أطلقه حراً من العراقيل. وقد بدا هذا على أوضح ما يكون منذ أن جاءت الحكومة الحالية إلى مقاعدها، ومنذ أن قام هشام المشيشي بتشكيلها، ومنذ أن استقر الرجل رئيساً للحكومة في قصر القصبة.
إن الرئيس قيس سعيد يبدو في كل الأحيان راغباً في أن يمارس صلاحيات رئيس مستقر في القصر الذي سبقه إليه الحبيب بورقيبة، ثم الرئيس زين العابدين، ولكنه يكتشف في كل مرة أن الدستور لا يسعفه، ويكتشف أنه لا يستطيع في الوقت نفسه أن يقفز فوق مواد الدستور ولا أن يتجاوزها!
وفي إحدى هذه المرات زار وزارة الداخلية، واستقبله فيها الوزير المسؤول في غير وجود المشيشي، الذي لم يشأ أن يجعل الموضوع يمر من دون إجراء له دلالة، فأقال الوزير بعدها بأيام، كأنه أراد من خلال ما قام به أن يبعث بـ«رسالة» إلى الرئيس موجزها أن السلطات في يده هو، كرئيس للوزراء، بما في ذلك طبعاً سلطة إقالة وزير الداخلية الذي نسي قواعد الدستور!
ولم يكن في مقدور قيس سعيد فعل شيء، لأنه جاء منتخَباً في ظل هذا الدستور نفسه، ولأنه لا بديل آخر عن احترام قواعده ومواده إلى أن تتغير فتعالج هذا الوضع السياسي المائل!
ولم تكن هذه هي الخطوة الوحيدة التي قطعها المشيشي في اتجاه تأكيد سلطته كرئيس للحكومة، وفي اتجاه لفت انتباه مَنْ لا يريد أن ينتبه إلى أن ولايته على الحكومة لا تسبقها ولاية أخرى إلا قليلاً، حتى ولو كانت هذه الولاية التي تريد أن تسابقه وتسبقه هي ولاية الرئيس.
ففي تشكيل الحكومة الأخير خرج الوزراء المحسوبون على قصر قرطاج، وبقي الوزراء المحسوبون على قصر القصبة، وكان هذا في العلن ولم يكن سراً من الأسرار، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا من جانب رئيس الحكومة وإنما سبقتها مرات.
وهكذا بدت تونس حائرة بين قصرين، قصر يسكنه الرئيس ويريده قصراً كقصر الحبيب وقصر زين العابدين، ثم قصر يقيم فيه رئيس الوزراء ولا يريده أقل مما يقول الدستور، ولا يلام الرجل في ذلك بطبيعة الحال لأنه يتصرف وفق نصوص دستورية واضحة.
وفي أجواء سياسية كهذه يتسع المجال أكثر بالتأكيد، لخلق الظروف التي تشجع على الاحتجاجات، وصناعة البيئة الاجتماعية التي تنجب المظاهرات، ولا تتاح الفرصة لألوان التعاون السياسي التي لا بد أن تنشأ وتقوم بين القصرين!
وإذا كانت الاحتجاجات قد تجددت في ذكرى مرور عشر سنوات على «ربيع تونس» وبشكل عنيف هذه المرة عن مرات سابقة، فالغالب أن تلك الفكرة الغائبة هي السبب، أو هي السبب الأقوى في أقل القليل. فالصراع بين القصرين بدا واضحاً منذ دخل الرئيس سعيد مكتبه في قصر قرطاج، وقد كان قصر القصبة في المقابل يصارع قرطاج منذ الحكومة الأولى في عهد سعيد، ولا بد أن انشغال القصرين بالبحث عمن ينحاز من الوزراء إلى أي منهما، قد شغلهما بالضرورة عن حل مشكلات حياتية كثيرة خرج المحتجون بسببها إلى شوارع عدد من الولايات، ثم إلى شارع الحبيب في العاصمة.
وليس من سبيل إلى استقرار تونس بدلاً من حيرتها الظاهرة بين القصرين، سوى إيمان ساكن قرطاج ومعه ساكن القصبة، بأن أداء كل واحد منهما يكمل أداء الآخر ولا ينال منه. لا حل آخر إلى أن يكون هناك تعديل في الدستور يوازن بين الصلاحيات في القصرين، فلا يظل أحدهما فاعلاً في كل ما يجري، بينما الآخر شبه متفرج على ما يتم أمامه ويدور.
وربما يكون على القصرين أن يدركا أن خصماً سياسياً لهما يكمن في ركن بعيد، وأنه يراقب خلافهما المتصاعد ويراه لصالحه في النهاية، وأنه ربما يتحين الفرصة ليتقدم ويحكم هو، كما سبق وحكم فترة فيما بعد ثورة الياسمين، وأن هذا الخصم اسمه «حركة النهضة الإسلامية» وعلى رأسها راشد الغنوشي.
كان يشار إلى تونس على مدى السنوات العشر، بوصفها المثال الأنجح بين دول الربيع، من حيث القدرة على المرور من خلاله بأقل الخسائر الممكنة، ولكن الأنباء القادمة من البلد طوال شهور مضت، تقول إن ما كان يشار به يحتاج إلى مراجعة!
تونس تجربة ناجحة يجب ألا تتعثر، وإذا كانت قد تعثرت في عدد من الخطوات فيجب ألا تتعثر أكثر، ولأنها بلد عرف تعليماً متقدماً من أيام بورقيبة، فأبناؤه قادرون على العبور به في هذه الأجواء الصعبة، ولكنهم في حاجة إلى أن يحصلوا على الفرصة في هدوء، وهذا لن يتحقق إلا بتوافق لا بديل عنه بين القصرين، إلى أن يكون في الدستور القائم كلام آخر.