بقلم - سليمان جودة
القصة فى موضوع رفع سعر رغيف العيش، أو رفع سعر أى سلعة أو خدمة أخرى، ليست فى غضب الغالبية من المصريين الذين يمسهم الموضوع، أو سخطهم، أو عدم رضاهم عن الحكومة.. لا.. ليست هذه القصة بالنسبة لى على الأقل.
القصة لها وجه آخر أراه فى الإنهاك الذى يمكن أن يصيب هذه الغالبية بسبب رفع أسعار السلع والخدمات التى يحصلون عليها.. والإنهاك الذى أقصده ليس من النوع البدنى الذى هو أهون ما فى الموضوع، ولكنه الإنهاك النفسى والعصبى والمعنوى بالأساس.
هذا ما أتمنى لو ينتبه إليه كل الذين يعنيهم الأمر فى البلد، لأنه أمر يتصل بشكل مباشر بحاضر البلاد ومستقبلها معًا، ومتصل بمدى قدرة الحاضر والمستقبل معه على التماسك، ثم على الصمود أمام التحديات التى تواجه المحروسة.
وإذا شئنا تفاصيل أكثر فسوف أقول إننا نخطئ لو تصورنا أن مصر لم تذهب إلى حرب فى مرحلة ما بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، فالحروب ليس من الضرورى أن تكون على الجبهات، ولا من اللازم أن تكون فى ميادين القتال، وإنما الحروب تظل مستمرة فى أوقات السلام ولكن بأدوات أخرى.. والعدو الذى يعجز عن إخضاع بلد على الجبهة وفى الميدان، يلتف لينقل المواجهة إلى ميادين مختلفة، لا تكون الحرب فيها بالسلاح بمعناه المادى والمباشر، ولكن بكل الأسلحة غير المادية وغير المباشرة.
ولهذا كله، فإننا فى حرب متصلة، وهى حرب غير مرئية بالعين المجردة، وجنودنا فيها ليسوا هم الجنود على الجبهة، ولكنهم كل مصرى فى مكانه، وأيًا كان موضعه أو محله فى مجتمعه.. هذه المعركة أو الحرب المتصلة ليست مع إسرائيل وحدها.. على الأقل لأن بيننا وبينها معاهدة سلام جرى توقيعها فى مارس ١٩٧٩.. ولكنها معركة أو حرب مع كل عدو ظاهر أو خفى يرى فى كل خطوة نقطعها للأمام خصمًا من رصيده هو.
هؤلاء الذين ينهكهم رفع الأسعار والخدمات، هُم جنود البلد فى مثل هذه المعركة المتصلة، ولنا أن نتصور ما يمكن أن تكون عليه النتيجة، إذا كان الجنود الذين هُم آحاد الناس فى الداخل، لا الجنود على الجبهة، بهذه الدرجة من الإنهاك والتعب.
كل مصرى يحمل جنسية هذا الوطن، هو جندى فى معركة بلاده من أجل مستقبلها، والحصيلة النهائية فى المعركة متوقفة على مدى قدرته على أن يخوض، وأن يقاوم، وأن ينتصر فى حياته هو.. فهل الإنسان المُنهك بفعل ضغط ضرورات الحياه عليه، يستطيع أن يخوض من مكانه مثل هذه المعركة، وإذا خاضها وهو على هذه الوضعية من الإنهاك، هل يستطيع أن ينتصر فيها؟.. هذا هو الوجه الآخر الذى أتمنى لو ينشغل به كل الذين يعنيهم الأمر، وأن يكونوا أمناء مع أنفسهم ومع بلدهم بالقدر الكافى فى النظر للموضوع.. فالمواطن المنهك لا يستطيع أن يشارك فى معركة التنمية والبناء، بل إنه يبقى عبئًا على الدولة لا عونًا لها.