بقلم سليمان جودة
صباح السبت الماضى، وقفت فى شارع أوكسفورد، أشهر شوارع لندن التجارية، أتفرج على مظاهرة ضخمة ترفع اللافتات، وتنبه المارة بالميكروفونات!.
كان السبت هو يوم 14 مايو، وكان المتظاهرون يريدون تذكير الجميع، بأن غداً الأحد هو 15 مايو، وأنه يوم لا يجوز أن ينساه أى إنسان عنده ضمير، لأنه هو اليوم الذى قامت فيه إسرائيل عام 1948 على حساب دولة أخرى اسمها فلسطين، وعلى حساب شعب آخر بكامله اسمه الشعب الفلسطينى!.
وكان المتظاهرون يرفعون لافتات تحمل عبارات من نوعية أن «إسرائيل دولة عنصرية».. وأن «الصهيونية هى العنصرية».. وأن «إسرائيل دولة تحتل أرض غيرها».. وكانت هناك لافتة عريضة طويلة تقول إن هناك 750 ألف لاجئ فلسطينى، وأننا لا يجب أن ننساهم، وأن علينا أن نقف معهم فى قضيتهم العادلة.
وكانت المظاهرة تتحرك فى الشارع الشهير، ولا تكاد تقف فى مكان، ويتجمع حولها الناس، حتى تنتقل إلى غيره، وكانت الشرطة تتحرك معها وتحرسها، بل تفتح أمامها الطريق كلما كان هناك عائق يمنعها من المسير!.
وكان الواضح لكل الذين تابعوها معى، وساروا معها خطوات، أننا أمام مشهد متحضر على أرقى ما يكون التحضر.. مشهد تدرك فيه الشرطة أن من حق كل مواطن أن يتظاهر دفاعاً عن قضية يراها عادلة.. ثم مشهد تفهم فيه الشرطة أن هذا حق للمواطنين، وأن من حقهم أن يمارسوه، ومن واجبها أن تتركهم يمارسون حقهم، وأن تكون إلى جوارهم تحميهم طول الوقت.. ثم كان الأهم فى المشهد كله، أن الذين خرجوا فى المظاهرة، قد تشربوا مبادئ ثقافة التظاهر على أفضل ما يكون.
أما المبادئ فهى أنه إذا كان لك أن تخرج فى مظاهرة، وإذا كان التظاهر يمثل حقاً من حقوقك، فإن عليك أن تتعلم كيف تمارس هذا الحق، وأن تعرف أن الاعتداء على الممتلكات العامة، أو الخاصة، أثناء تظاهرك، إنما هو من المحظورات، وأن تدرك أن ممارسة العنف، أو التحريض عليه، ممنوع بنص القانون.
مضت المظاهرة فى طريقها، ووقفت وحدى بعد أن كادت تختفى عن الأنظار، وسألت نفسى عن المدى الزمنى الذى نحتاجه، حتى نصل إلى حدود هذا المشهد الراقى الذى تابعته بعينى!.
مشهد تكون فيه الشرطة على يقين، من أن الذين يخرجون للتظاهر، من أجل أى قضية ليسوا أعداء بالضرورة، لأنهم أصحاب قضية يرونها عادلة، يدافعون عنها، ويتمسكون بها.. ومشهد يكون فيه المتظاهرون، فى المقابل، على الدرجة نفسها من الرقى، بحيث لا يعتدون على الممتلكات العامة والخاصة وفقط، وإنما يجمعون مخلفاتهم من ورائهم، إذا غادروا المكان، ليتركوه كما كان، فيكتسبون تعاطف الرأى العام من حولهم، ويضمون آخرين إلى صفوفهم، ويقطعون خطوات فى اتجاه كسب القضية.. أى قضية.
كم من الوقت نحتاجه، لنصل إلى معالم هذه الثقافة العامة التى حكمت مشهداً راقياً تابعته خطوة، خطوة، فى مدينة الضباب؟!.. كلما خرجت عندنا مظاهرة، تكتشف أنك أمام أعدل قضية.. أياً كانت هى.. وأنك أمام أسوأ محامين عنها.. على الجانبين!.