بقلم سليمان جودة
تعرف الدولة أنها أحوج دول المنطقة إلى جذب أى دولار من الخارج إلى أرضها، وإلى خزانتها العامة، ولكنها تتصرف فى الوقت نفسه بما يجعل مثل هذا الدولار فى أحيان كثيرة أبعد ما يكون عنها!
مثلاً.. ما هى «الرسالة» التى تخرج من عندنا إلى أى مستثمر يفكر فى المجىء إلينا، إذا ما قرأ عن أن دولتنا تعمل من خلال جهاز الكسب، وغير جهاز الكسب، على التصالح مع الذين ترى أنهم حصلوا على أموال عامة دون وجه حق؟!
قد تبدو حكاية التصالح، أمام عامة الناس فى الشارع، مقبولة ومطلوبة.. وإلا.. فهل يمكن لأحد أن يقف ضد أن يعود مال عام للدولة، كان صاحبه قد حصل عليه بطريق غير مشروع؟
غير أن السؤال، على الوجه الآخر، هو: على أى أساس بالضبط يجرى مثل هذا التصالح، ومن بالضبط هو الذى عليه أن يقول إن فلاناً من أصحاب الأعمال قد حصل على كذا على وجه التحديد من المال العام، وأن عليه أن يعيده؟!
المفترض أن القضاء، من خلال محاكماته العادلة، هو وحده الذى له أن يقول ذلك، وفيما بعد المحاكمة، وفيما بعد إدانة فلان من رجال الأعمال، أو علان، يصبح للمصالحة، أو التصالح، مكان.. فوقتها فقط سوف نكون قد عرفنا، بالمحاكمات العادلة لا بغيرها، أن هذا من رجال الأعمال عليه أن يرد لنا كذا.. وأن ذاك من رجال الأعمال أيضاً عليه أن يعيد إلينا كيت.. وبالأرقام.. فلا نقع أسرى التقدير الجزافى، ولا نفرط فى أى قرش من المال العام!
أريد أن أقول إن «الرسالة» التى لابد أن تخرج عنا إلى عالم الاستثمار من حولنا هى أننا دولة قضاء عادل، وأن هذا القضاء العادل هو وحده مرة أخرى الذى يحكم بين الدولة وبين أى صاحب أعمال، أو مستثمر، ترى أنه لم يتصرف على أرضها كما يجب، أو أنه طغى على حقها، أو أنه لم يدفع حق الدولة فى أرباحه، أو أنه تهرب من ذلك، أو أنه... أو أنه... إلى آخره!
أما أن يتقاطع جهاز الكسب، أو غير جهاز الكسب، مع المحاكم ومع القضاء، فهذا فى ظنى ما لا يخدم بيئة الاستثمار بوجه عام، وهذا بالدرجة نفسها ما يجعل لسان حال أى مستثمر فى ظنى يقول: ما الذى يجبرنى على الذهاب إلى مصر، إذا كان هذا هو حال مناخ الاستثمار العام فيها، وإذا كانت هناك دول حولها، فى الوقت ذاته، تنادينى، وتغرينى بشتى المزايا؟!
المصالحات لا يجوز أن تكون نوعاً من الإرهاب للمحاكم صاحبة الشأن فى الموضوع، أو أن تكون أخذاً من الدور الطبيعى للقضاء العادل، أو قفزاً فوقه، لأن دورها كمصالحات يأتى، إذا أتى، فى سياق ما بعد المحاكمة الطبيعية أمام القاضى الطبيعى، وليس قبلها، ولا فى أثنائها!
المصالحات بطريقة التفكير الحالية قد تفتح باباً من أبواب الحصول على مئات الملايين من هنا، أو من هناك، من أصحاب أعمال للدولة، ولكنها، بالتوازى، تغلق باباً نريده مفتوحاً أمام استثمار الخارج الذى نحتاجه متدفقاً نحونا، وتدفع أهل هذا الاستثمار نحو أى أرض إلا أرضنا!.. فانتبهوا جيداً!