سليمان جودة
عندما يحتفل العالم في 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بانقضاء هذا العام، ومجيء عام جديد، فإنه سيحتفل في اللحظة ذاتها، بصدور آخر عدد من مجلة «نيوزويك» الأميركية، التي قرر ناشروها أن يكون العدد الصادر منها، في هذا التاريخ، هو آخر عهد القراء بها، كمجلة ورقية، وبعد ذلك، سوف تكون المجلة موجودة، غير أن الوجود هذه المرة، لن يكون لدى باعة الصحف، كما اعتاد قراؤها طول ثمانية عقود، وإنما سيكون إلكترونيا على موقعها الذي سيتاح لمن يريد، مقابل اشتراك ثابت.
ولا بد أن «نيوزويك» ليست المطبوعة الأولى التي يجرفها الإعلام الإلكتروني في طريقه، ولن تكون الأخيرة، فقبلها آلت مطبوعات عدة إلى المصير نفسه، ومن بعدها سوف تلحق بها مطبوعات أخرى، لا تزال على الطريق، ولكن يبقى لهذه المجلة أنها ربما تكون المطبوعة الأشهر التي اتخذ أصحابها هذا القرار بشأنها.. فليس أشهر منها في الولايات المتحدة، ومعها «تايم» بالطبع، ولا بد أن هذه الأخيرة تتحسس صفحاتها في الوقت الراهن، خشية أن يدركها ما أدرك قرينتها من مصير محتوم في وقت قريب.
الشيء اللافت أن الصحف المصرية نشرت الخبر على استحياء، وفي حيز مخنوق، وكأنها كانت تتحسب، وهي تنشره، من أن يأتي عليها يوم يصيبها فيه ما أصاب «نيوزويك» العريقة.
ومما جاء في الخبر أن المجلة اتخذت هذه الخطوة، في وقت تحتفل فيه بمرور 80 عاما على صدورها، وهي مسيرة تضعها على كل حال، بين المجلات الأعرق في العالم..
خطوة من هذا النوع لم تحدث بعد، على مستوى إعلامنا العربي، ربما لأنه يأتي تاريخيا، في إجماله، وبمعنى من المعاني، بعد مثيله الغربي.. صحيح أن عندنا في القاهرة مجلات أقدم من «نيوزويك» وأطول عمرا، وصحيح أن مطبوعات كثيرة في العالم العربي يمكن أن تكون أعرق من المجلة الأميركية، ولكن المسألة هنا ليست مجرد أن الذي صدر أولا يجب أن يختفي ورقيا ويظهر إلكترونيا أولا، فالحكاية لها أبعاد أخرى، ليس أولها إحساس المجلة، كما أحست «نيوزويك» بأن إصدارها الورقي قد بلغ غايته المنشودة، ولم يعد فيه مجال لزيادة، ولا آخرها أن «نيوزويك» لا بد أنها حسبتها، ثم جمعتها وطرحتها، وتبين لها بالورقة والقلم أن التحول من مرحلة مضت إلى هذه المرحلة المختلفة تماما في حياتها، سوف يكون أكثر فائدة لها، ولقرائها المتابعين!
وربما نذكر الآن، ونحن نقرأ مثل هذا الخبر عن أفول مجلة لها هذا الاسم في سوق المطبوعات، أن صيحات التحذير بيننا من غروب شمس الإعلام الورقي، لم تكن تتوقف طوال الأعوام القليلة الماضية، وكان هناك شبه اتفاق على أن غروب هذه الشمس التي أشرقت طويلا، قادم قريبا لا محالة، وكان الخلاف فقط حول المدى الزمني الذي يمكن أن تستغرقه «قريبا» هذه.. هل هو عشر سنوات؟! عشرون؟! ثلاثون؟! إلى آخره..! وكان هناك رأي آخر يرى ولا يزال، أن زحف الإعلام الإلكتروني لا يعني بالضرورة انحسار الإعلام الورقي وصولا إلى انطفائه.. فمن الجائز أن يتجاور ويتعايش الاثنان على أرض واحدة، ومن الممكن أن يتراجع الإعلام الورقي، قليلا، ثم يظل محتفظا بدرجة من الحضور، أيا كان مقدارها.. فالمهم أنه لن يودعنا نهائيا، ولن يختفي كاملا، وهو رأي أقرب إلى العقل والمنطق منه إلى أي شيء آخر.
ولكن، يبقى على جانب آخر، أنه ليس من الضروري أن يسود كل ما هو أقرب إلى العقل أو المنطق، وأن ينزوي ما سواه، فما أكثر الأشياء غير المعقولة، وغير المنطقية التي تملأ حياتنا، وتدوم، وتعيش، بل تعمر!
ولذلك، فإن السؤال الذي طاف في ذهني عند قراءة الخبر الذي ينعى «نيوزويك» إلى قرائها، قد جاء على النحو التالي: إذا كانت هذه المجلة قد قفزت هذه القفزة المفاجئة بالنسبة لنا نحن الذين لسنا جمهورها الأساسي على كل حال، فلا بد أنها فعلتها بعد أن أدركت، من خلال القائمين عليها، أنها قد استوفت مهمتها فيما يخص متابعيها، كإصدار ورقي، في بلدها، وكان عليها بالتالي، أن تنتقل إلى مرحلة أخرى، بعد أن أصبح جمهورها هناك قادرا على أن ينتقل معها، كمجلة، إلى مرحلتها الجديدة تلك، وهو «متسلح» بأدوات هذه المرحلة.. إذا كان هذا قد حدث على مستواها، فكان الانتقال من خطوة محددة لما بعدها انتقالا طبيعيا، فهل يأتي علينا نحن وقت تجد فيه بعض مطبوعاتنا أنها مضطرة هي الأخرى بحكم إيقاع العصر المتدفق، إلى الانتقال للفضاء الإلكتروني، دون أن يكون جمهورها في المقابل، قد تهيأ بما يكفي، للانتقال معها بدوره، إلى الفضاء ذاته؟!
وبمعنى آخر، فإنني أتصور مرحلة الإصدار الورقي، في تاريخ كل مطبوعة، على أنها أشبه بحياة أي كائن حي، حين يمر من طفولته وصباه إلى شبابه، ثم كهولته، وأخيرا شيخوخته، ولذلك فليس هناك كائن من هذا النوع، قفز ذات مرة من الطفولة إلى الشيخوخة، اللهم إلا على سبيل الاستثناء النادر.
وحين ظهر الإعلام الإلكتروني على أرضه، وقبل أن يصل إلينا، فإنه كان عند أهله، مؤشرا على أن مرحلة الإعلام الورقي، قد بلغت ذروتها، أو ما يقرب من الذروة، وأن جمهور القراء أصبح بحكم تطور هائل شهده الاتصال، قادرا على أن يتخاطب ويتواصل مع إعلام من نوع جديد، وراغبا في أن يوظف هذا الإعلام الجديد، لما يوفر مقتضيات مرحلة جديدة في حياته، كجمهور قارئ، آن له أن ينقل قراءته إلى مستوى آخر، وبأدوات أخرى، ليس من بين مكوناتها الأحبار، ولا الأوراق، ولا المانشيتات الشهيرة!
وكما انتقل الإنسان من المرحلة الرعوية في تاريخه، إلى الزراعية، فالصناعية، فالتكنولوجيا بكل تجلياتها، فإنه على مسار الكلمة ينتقل اليوم من صحيفة يفردها بين يديه، ويظل يطالع صفحة وراء أخرى، يدويا، إلى مربع آخر، يستطيع فيه أن يطوي الصحيفة، وربما الصحف، في لحظات، لا ساعات، كما ظل يفعل مع «نيوزويك» على مدى 80 عاما متصلة.
الحاصل أن نظرة شاملة على فضائنا الإلكتروني عموما، تقول إن الذين دخلوه عندنا، دون أن يمروا بالمرحلة السابقة عليه، ورقيا، إنما يتصرفون طول الوقت على نحو مراهق غير مسؤول، وكأن هذا النوع من الإعلام قد أتاحته ثورة الاتصالات الحديثة، من أجل اللهو، والعبث، لا العمل أو الإبداع.
وإذا كان قرار «نيوزويك» قد جاء في وقته، وفي أوانه، فإن ما يخشاه المتابع للقصة على بعضها، أن يتسارع هذا المد الإلكتروني، صحافيا، بحيث ينقلنا في المقابل، عنوة، ودون أوان، من مرحلة ورقية لم تستوف وقتها لدينا، بحروفها المكتوبة، وبكل ما يمكن أن ترسخه هذه الحروف من قيم بيننا، إلى ما بعدها، بغير تهيئة كافية تستغرق وقتها الطبيعي هي الأخرى، فيصبح شأننا، عندئذ، شأن «المنبتّ» الذي يتحدث عنه الحديث الشريف، ويصفه بأنه «لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».
نقلاً عن جريدة " الشرق الأوسط "